مدارات

في "الثقافة الجديدة": ملاحظات حول مشروع الدولة الاتحادية في العراق

فرحان قاسم
فرحان قاسم، عضو مجلس محافظة بغداد، بكالوريوس لغة عربية، بكالوريوس لغة إنجليزية، عمل في التدريس، والإشراف الاختصاصي، عضو نقابة الصحفيين العراقيين، عضو الجمعية الوطنية للدفاع عن حقوق الانسان في العراق. نشر مقالات عديدة في العديد من الصحف العراقية.
مقدمة
من بين (198) دولة في العالم، يقطن اليوم ما يقارب 40% من السكان في أكثر من 25 جمهورية فدرالية، غالبية هذه البلدان تجاوزت الكثير من ازماتها الاقتصادية والسياسية بفضل هذا النظام. ورغم الجعجعة التي تثار في بلدنا من بعض الاصوات بدوافع مسبقة أو نتيجة الجهل بطبيعة النظام الفدرالي فان الممارسة على المستوى العالمي اثبتت جدوى مثل هذا النظام سواء على المستوى الاقتصادي، حيث تجاوزت تلك الدول التخلف الاقتصادي والاجتماعي وان بدرجات متفاوتة، أو على المستوى السياسي، بمغادرة القمع والتعسف واعتماد آليات الديمقراطية في تبادل السلطة. واذا استثنينا عددا من البلدان ذات الحكم الدكتاتوري أو النظم الملكية المطلقة، فان الغالبية العظمى من البلدان التي لم تعتمد الفدرالية، لجأت الى النظام اللامركزي في الحكم كوسيلة لتحقيق اهدافها الاقتصادية في التنمية.
إن النظام الفدرالي لم يؤسس لحل المشكلة القومية فقط، كما يظن بعض المحللين بل هو نظام يعتمد تعدد او ثنائية السلطة وتوزيع الصلاحيات واستقلال السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية النسبي سواء كانت هناك تعددية اثنية أو لم تكن؛ فالكثير من الفدراليات القائمة ليس فيها مشكلة قومية أو مشكلة تعددية مكونات، ولكنها وجدت في النظام الفدرالي أداة فاعلة لتحقيق التقدم والازدهار والأمن مثل المانيا، الولايات المتحدة الامريكية، الامارات العربية الخ. ومع هذا تبقى الفدرالية وسيلة ناجعة لحل المسألة القومية في البلدان التي تتعدد فيها المكونات.
ويعد الحزب الشيوعي العراقي اول من تناول مفهوم الفدرالية في ادبياته سواء على المستوى النظري او البرنامجي العملي، ويعود استخدام هذا المفهوم منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين حينما استخدمه الراحل عزيز شريف في احدى مقالاته آنذاك.
بعد فشل تجربة قانون الحكم الذاتي في 11 اذار 1970 بسبب سياسة الدكتاتورية الشوفينية البغيضة وبسبب ضيق الافق القومي لدى بعض الاحزاب القومية الكردية، تبنى الحزب شعار الديمقراطية للعراق والفدرالية لكردستان في بداية التسعينيات من القرن العشرين، كحل ليس فقط للقضية القومية الكردية، وانما كحل للقضية العراقية ككل. جرى هذا في وقت رأت فيه بعض الاحزاب القومية الكردية هذا الشعار سابقا لاوانه.
ما طرحه الراحل د. رحيم عجينة حول الفدرالية وما تبناه الحزب آنذاك، يرتبط بمفهوم الفدرالية القومية، بسبب متطلبات تلك اللحظة التاريخية التي اصبحت فيها القضية الكردية وحلها لا يتعلق بالجوانب الانسانية لمأساة الشعب الكردي التي سببتها له الدكتاتورية البغيضة وإنما اصبحت قضية سياسية من الدرجة الاولى، واصبح حل القضية العراقية عموما يمر من خلال حل القضية القومية الكردية.
ما اريد قوله هنا هو ان فكرة الفدرالية التي تبناها الحزب أولا والحركة القومية الكردية لاحقا انطلقت من عوامل موضوعية فرضتها متغيرات الواقع الموضوعية سواء الدكتاتورية وسياساتها القمعية الشوفينية الرعناء تجاه العراقيين عامة والكرد بشكل خاص، أو تطورات القضية الكردية خلال التسعينيات بعد قرارات مجلس الامن الدولي حينذاك. ولم يطرح الحزب اي اشارة الى فدرالية خارج اطار الحقوق القومية للكرد وضمان حقوق المكونات الاخرى. كما لم يطرح الحزب مخططا جاهزا لهذه الفدرالية وانما اعتمدها شعارا نضاليا ضمن مجموعة شعارات اخرى تتعلق بالديمقراطية السياسية والاجتماعية.
مشروع متعدد الأذرع
بعد ازاحة الدكتاتورية عن طريق احتلال اجنبي وشرعنته عن طريق الامم المتحدة بموجب قرار مجلس الامني الدولي المرقم 1483، اصبح العامل الخارجي عاملا داخليا مقررا لعب دورا حاسما في تشكيل البناء الفوقي عن طريق سلسلة من القوانين والتعليمات التي اصدرها (بول بريمر)، وعن طريق المستشارين الذي تولوا تنظيم وإدارة مؤسسات الدولة، اضافة الى تحطيم القاعدة الانتاجية الصناعية والزراعية العراقية، تمهيدا لخلق علاقات انتاجية مشوهة جديدة تنسجم وتوجهات اللبرالية الجديدة التي تسعى الى ابقاء العراق ذي الاحتياطي النفطي الهائل، بلدا تابعا ضعيفا تسوده الفوضى من خلال مشروع متعدد الاذرع:
• الذراع الاجتماعي: اعتمد المشروع الامريكي اسلوبين في المشهد الاجتماعي:
الاسلوب الاول وتمثل في:
1- خلق فئات وطبقات اجتماعية جديدة داعمة لهذا المشروع عن طريق تنصيب قوى واحزاب وشخصيات رافقت الاحتلال تقوم بابتلاع المال العام عن طريق الفساد المالي والاداري، وتتحول من شرائح بيروقراطية الى مالكة لرأس مال مالي ضخم يتحكم بمصارف عديدة ومؤسسات اخرى ويساهم مع شركات عالمية.
2- فتح مؤسسات وبنوك الدولة للحواسم، لخلق فئة اجتماعية من حطام المجتمع تلتحق بالفئات الطفيلية القديمة والمستحدثة.
3- كما جلب الاحتلال عناصر دربها في جيكوسلفاكيا والولايات المتحدة الامريكية ليقوموا بمهمات متعددة، اهمها ان يكونوا فئة اجتماعية تتحكم بمقدرات الاقتصاد العراقي.
4- كما استخدموا قسما من الكفاءات العراقية في زمن الدكتاتورية من سجناء عاديين في ابو غريب بجرائم فساد مالي وما الى ذلك، وعناصر اخرى لتحويلهم الى مقاولين واصحاب شركات تجارية وعقارية ووكالات مختلفة. وهكذا نجح المشروع الامريكي في خلق القواعد الاجتماعية التي تتيح له الوصول الى سلطة القرار السياسي والتشريعي والتنفيذي والقضائي لاحقا، بعد الاحتلال المباشر من خلال تلك العناصر الفاعلة والمؤثرة سواء في البرلمان او مجلس الوزراء او القضاء.
5- اصبح لهذه القاعدة الاجتماعية الخطيرة امتداد عمودي مؤثر وامتداد افقي مؤثر واسع. بالنسبة للعمودي نجد لهذه القاعدة كتلا مهيمنة وشخصيات في موقع القرار السياسي والاقتصادي وهي تتوزع على الاحزاب الاسلامية الشيعية والسنية وبعض الاحزاب والشخصيات "العلمانية" حيث تتوحد المصالح تحت ظل المشروع الامريكي رغم اختلاف الايديولوجيات والمذاهب. وبالنسبة للأفقي نجد هذه القاعدة الاجتماعية تشمل تحالفا واندماجا احيانا بين كيانات اجتماعية وشخصيات ومؤسسات الدولة ومؤسسات القطاع المالي؛ حيث تحول شيوخ قبائل وعشائر وشخصيات من محامين وأطباء... الخ الى مقاولين وأصحاب شركات وأسهم في البورصة وبذلك انتقل الشيخ من علاقات قربى حميمية تجمعه مع وسطه الاجتماعي الى علاقة تمايز اجتماعي واضحة وجلية حولت أولاد العمومة الى عمال وحراس تابعين اقتصاديا له.
الاسلوب الثاني في الذراع الاجتماعي اعتمد على تشويه المشهد الطبقي الذي كان قائما في عهد الدكتاتورية البغيضة عن طريق:
1. تحطيم القاعدة الانتاجية الصناعية والزراعية ادى الى خلخلة في توزيع القوى الاجتماعية على خارطة المشهد الطبقي؛ فالطبقة العاملة الصناعية في القطاعين العام والخاص تعرضت الى انتكاسة كبيرة، سواء في مستوى معيشتها او في موقعها السياسي والاجتماعي ودورها في الصراعات بعد 2003. ونفس الانتكاسة واجهها الفلاحون الذين اضطر الكثيرون منهم الى هجر اراضيهم والانتقال الى مواقع طبقية أخرى، اغلبها هامشية في التسلسل الاجتماعي.
2. انتشار فئات جديدة واسعة جدا في المشهد الطبقي جاءت نتيجة اتساع فجوة التمايز الاجتماعي والذي انعكس على نسبة الفقر والبطالة، فظهر تسرب الطلاب وهجرة الفلاحين واتساع حجم الارامل والأيتام وبروز فئات "العتاكة" وباعة "الجنابر" والباعة من الاطفال في الطرقات وساحات المرور، والشحاذون والشحاذات وما الى ذلك.
3. اعادة دور الفئة الوسطى (شغيلة الفكر) ورفع شأنها من جديد بعد تعرضها لحملة تدميرية منظمة من قبل الحكومات المتعاقبة، عدا السنوات الاولى من ثورة الرابع عشر من تموز، ولكن ارتفاع ورفع دور هذه الفئة بعد 2003 جاء مقلوبا على رأسه لان التطور فيها حصل على رفع مستواها الاقتصادي، اما دورها التاريخي التنويري فقد تحول الى العكس لدى الغالبية العظمى من افراد هذه الفئة، وتحولت الى جزء من ماكنة الاعلام التضليلي لدعم العودة الى الماضي والتمسك بالخزعبلات والطقوس البالية أو دعم التوجه اللبرالي المنفلت الداعي الى دعم توجهات اللبرالية الجديدة. ولم يبق من هذه الفئة الا الاقلية التي حافظت على دورها التنويري وهي تعاني التهميش والهديد والقمع والتعسف.
4. تحول المؤسسة الدينية، على الجانبين، الشيعية والسنية، الى قوة اقتصادية ضخمة تضم مشاريع صناعية وتجارية وزراعية، يعمل فيها عشرات الالاف من العراقيين فقراء ومثقفين، وقوة ايديولوجية كبرى تضم عددا من الفضائيات والبرامج ودور النشر والطباعة ويرتبط بهذه المؤسسة آلاف الدعاة و"الرواديد" وشيوخ المساجد والحسينيات كما ترتبط بها الكثير من المدارس والمعاهد والجامعات، وبهذا اصبحت هذه المؤسسة جزءا اساسيا من التحالف المهيمن بغض النظر عما يقال من وقوفها على الحياد.
الذراع الايديولوجي: اعتمد المشروع على التعمية والتضليل لتمرير هدفه البعيد بتحويل العراق الى دولة ضعيفة تابعة للرأسمال العالمي من خلال الترويج لمشروع العولمة والرأسمالية المنفلتة مستخدما الكثير من الفضائيات والمؤسسات والمنظمات والشخصيات لتحقيق هذا الهدف.
• الذراع السياسي: الاحتلال الامريكي والقوى التي لهثت وراءه هيأت المستلزمات السياسية لنجاح مشروع الاحتلال وادامة زخمه وتأبيده وجعله واقعا معاشا باعتماد ما يأتي:
1- الترويج لفكرة ان امريكا جاءت للقضاء على الدكتاتورية وإقامة الديمقراطية في العراق لغرض بناء نظام يحقق للعراق العدل والتقدم والازدهار والحرية والمساواة.
2- بناء النظام السياسي على اساس المحاصصة الطائفية - الاثنية وهذه هي المفارقة الاولى والمضحكة والمبكية في نفس الوقت، لان المحاصصة تتقاطع من حيث الجوهر مع الاهداف المعلنة للمشروع في ادعاء بناء الديمقراطية والعدل والازدهار والتقدم؛ فالمحاصصة لا تحقق سوى عكس تلك الاهداف تماما.
3- يستند هذا النظام السياسي - اي نظام المحاصصة - على الفدرالية في ادارة شؤونه، وهذه هي المفارقة الثانية في المشروع الامريكي واللاهثين حوله، اذ كيف يتحقق النظام الفدرالي وهو من حيث الجوهر يتقاطع مع المحاصصة تماما في الاهداف والآليات.
الدولة الاتحادية بين الواقع والآفاق
اولا: الجانب النظري وجذور اعداد النظام الاتحادي
بيّنت نظرية المعرفة الماركسية ان أي نظرية او مشروع يبقى نظرية ومشروعا الى ان تزكيه الممارسة والتطبيق، حين ذاك يتحول من مجرد نظرية ومشروع الى حقيقة ماثلة معاشة. أما إذا واجهت هذه النظرية أو المشروع صعوبات وصلت حد استحالة التطبيق فانه يعني امرين:
- ان يكون هناك خلل في التحليل اصلا، وان النظرية والمشروع يفتقر الى الواقعية وان قاعدة المعلومات التي استند اليها المشروع او النظرية لم تكن دقيقة، ما اوصل الى استنتاجات خاطئة تتقاطع مع امكانية تنفيذه، وهذا الأمر يتطلب اعادة النظر بالمشروع والنظرية كلها من جديد وإعادة البحث لإنتاج معرفة جديدة ومشروع آخر يتطابق مع الواقع لكي يمكن تنفيذه.
- ان تكون النظرية أو المشروع مستندا الى قاعدة معلومات دقيقة، اي انه كان مستندا الى دراسة الواقع في حركته وعلاقاته المتشابكة وآفاقه، لكن الامكانات الذاتية حالت دون تطبيقه اي لا تتوفر امكانية لتحويله الى ممارسة.
هناك مجموعة اسئلة وملاحظات تواجهنا لغرض الوصول الى الاسباب الكامنة وراء الاستعصاء الذي واجهه مشروع الدولة الاتحادية في العراق ومنها:
• منذ التسعينيات كانت كردستان تتمتع بوضع سياسي واقتصادي خاص، بناء على قرارات الأمم المتحدة؛ اذ انها كانت تتصرف كحكومة مستقلة عن الدولة المركزية.
• استمر حكم بريمر من 21 نيسان 2003 الى 28 حزيران عام 2004.
• استمر (مجلس الحكم الانتقالي) من 12 تموز 2003 الى 21 حزيران 2004.
• صدر (قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية) التي بدأت في 30 حزيران 2004 وانتهت في 21 تموز 2005. ورد في المادة 4 من هذا القانون ما يأتي "نظام الحكم في العراق جمهوري اتحادي (فيدرالي)، ديمقراطي، تعددي، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الاقليمية والمحافظات والبلديات والادارات المحلية. ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الاصل او العرق او الاثنية او القومية او المذهب"، وورد في المادة (32) من القانون ما يأتي: "يؤسس تصميم النظام الاتحادي في العراق بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية. ذلك التركيز الذي جعل من الممكن استمرار عقود الاستبداد والاضطهاد في ظلم النظام السابق. ان هذا النظام سيشجع على ممارسة السلطة المحلية من قبل المسؤولين المحليين في كل اقليم ومحافظة. ما يخلق عراقا موحدا يشارك فيه المواطن مشاركة فاعلة في شؤون الحكم ويضمن له حقوقه ويجعله متحررا من التسلط."
المادة الثالثة والخمسون:
(أ) ـ يعترف بحكومة اقليم كردستان بصفتها الحكومة الرسمية للاراضي التي كانت تدار من قبل الحكومة المذكورة في 19 آذار 2003 الواقعة في محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك وديالى ونينوى. ان مصطلح "حكومة اقليم كردستان" الوارد في هذا القانون يعني المجلس الوطني الكردستاني، ومجلس وزراء كردستان والسلطة الاقليمية في اقليم كردستان.
(ب) ـ تبقى حدود المحافظات الثمانية عشر بدون تبديل خلال المرحلة الانتقالية.
(ج) ـ يحق للمحافظات خارج اقليم كردستان، فيما عدا بغداد وكركوك، تشكيل اقاليم في ما بينها، وللحكومة العراقية المؤقتة ان تقترح آليات لتشكيل هذه الاقاليم، على ان تطرح على الجمعية الوطنية المنتخبة للنظر فيها واقرارها يجب الحصول، بالاضافة الى موافقة الجمعية الوطنية على أي تشريع خاص بتشكيل اقليم جديد على موافقة اهالي المحافظات المعنية بواسطة استفتاء.
(د) ـ يضمن هذا القانون الحقوق الادارية والثقافية والسياسية للتركمان والكلدو آشوريين والمواطنين الاخرين كافة.
من النص السابق يتضح ان النظام الفدرالي في العراق هو "تصميم" صادقت عليه الادارة الامريكية ممثلة بحاكمها بريمر، والسبب في صدوره بهذا الشكل هو منع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية - وما كان لاي مشروع ان يمر دون موافقة الادارة الامريكية بغض النظر عن الخبراء او اللجان التي اعدت هذا المشروع -.
من خلال النصوص السابقة في قانون ادارة الدولة يتضح ما يأتي: (1- النظام الاتحادي تشكل على الاساس الجغرافي والتاريخي وليس على الاساس القومي كأسلوب لحل المشكلة القومية الكردية وبقية المكونات من "الاقليات" وهذه قنبلة موقوتة انتجت فكرة الاقاليم وما تبعها من قانون مجالس المحافظات غير المرتبطة باقليم وتعديلاته. 2- صدر النظام الاتحادي بناء على رغبة مسبقة "تمنع تركيز السلطة في الحكومة المركزية"، وليس بناء على دراسة معمقة ادت الى هذا الاستنتاج. 3- صدر النظام الاتحادي كجزء من "قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية" الذي لم يستغرق اعداده سنة واحدة. وهذا مؤشر يبين الاسباب الحقيقية وراء الاستعصاء الذي واجه تطبيق هذا النظام).
ثانيا: الجانب التطبيقي "الممارسة"
بعد القوانين والاجراءات التي اعقبت صدور (قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية) وصدور دستور جمهورية العراق في 2005، نلاحظ ما يأتي:
1. جميع الاجراءات والقوانين في كردستان تشير الى توجه مقصود لتحويل كردستان الى كونفدرالية او دولة مستقلة، خلافا لما تم الاتفاق عليه في مجلس الحكم او الحكومات التي تلته. اذن حركة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في كردستان جرت بطريقة تتقاطع مع النصوص القانونية للنظام الاتحادي المتفق عليه بغض النظر عما يقال من مبررات لهذا السلوك.
2. حكومات علاوي والجعفري والمالكي وحيدر العبادي تشير الى الحقائق والوقائع الاتية:
- ان هذه الشخصيات تخفي وراءها نزعات قومية ضيقة معادية لحقوق الاكراد وبقية المكونات الإثنية (علاوي ومن يقف معه ووراءه)، وتخفي نزعات اسلامسياسية معادية لحقوق القوميات كلها (الجعفري والمالكي والعبادي(.
- جميع الحكومات التي اعقبت الاحتلال تحمل ميولا فردية تصل حد الدكتاتورية في اتخاذ القرارات، اضافة الى انها همشت الى حد كبير من دور الحكومات المحلية حتى بعد صدور قانون مجالس المحافظات غير المرتبطة بإقليم سنة 2008.
- واجه قانون مجالس المحافظات رقم 21 لسنة 2008 صعوبات جمة في التطبيق لذلك صدر التعديل الاول عليه برقم 15 لسنة 2010 الذي واجه هو الآخر صعوبات في التطبيق، فصدر التعديل الثاني رقم 19 لسنة 2013 الذي يوجه حاليا مقاومة ومعارضة شديدة من مجلس الوزراء وقادة بعض الكتل في البرلمان لذلك تجري الآن عملية اعداد التعديل الثالث لتحجيم صلاحيات الحكومات المحلية باتجاه تعزيز مركزية الدولة الاتحادية.
- واجه دستور جمهورية العراق سنة 2005 صعوبات كثيرة في التطبيق ارتباطا بصياغاته التي جاءت نتيجة توازنات وتوافقات بين قوى وتيارات متصارعة ايديولوجيا ومتقاطعة في المواقف الاقتصادية والاجتماعية، اضافة الى دخول العامل الخارجي طرفا مباشرا او غير مباشر في تلك الصياغات. وقد وصل استعصاء التطبيق في الدستور حد ان إحدى الورش التي عقدت بمناسبة مرور عشر سنوات على صدوره اقرّت انه لم تشهد تلك السنوات العشر اي تطبيق كامل لأية مادة من مواده.
الاستنتاجات
بعدما تم عرضه من حقائق ووقائع لا بد من معرفة الاسباب الحقيقية وراء عدم امكانية تطبيق النظام الاتحادي كما ورد في نصوصه الدستورية: فهل السبب يكمن في ادوات تطبيقه؟ اي هل السبب يكمن في الاشخاص او الاحزاب المهيمنة التي تولت الاشراف على تطبيقه؟ ام يكمن في نظام المحاصصة الذي يتقاطع اصلا مع النظام الاتحادي؟ ام في عجز النصوص القانونية عن تمثيل الواقع؟ اي ان التصميم الذي جاء به قانون ادارة الدولة غير قابل للتطبيق بسبب عجزه عن محاكاة الواقع، اذا لا يكفي ان تكون هناك مشكلة قومية او تعددية في مكان ما لكي تطرح نظاما اتحاديا منسوخا عن نماذج نجحت في اماكن اخرى كبديل عن دكتاتورية بائدة.
من خلال تجربتي في العمل بمجلس محافظة بغداد اعتقد جازما ان السبب في استعصاء تطبيق النظام الاتحادي، يكمن في العاملين كليهما، واعني بذلك ان تصميم النظام الاتحادي لم يكن منطلقا من حركة واقعنا الملموسة، وإنما نتاج رغبة واستنساخ تجارب اخرى واسقاطها على الواقع العراقي، وكذلك فان القوى المهيمنة غير مؤهلة لبناء عراق مدني ديمقراطي اتحادي.
وبدلا من ان تتحول مؤسسات النظام الاتحادي (السلطة الاتحادية وسلطة اقليم كردستان والحكومات المحلية) الى عامل يشيع الاستقرار والتقدم، اصبحت ادوات لتكريس الانقسام والفوضى والفساد والتخلف الاقتصادي والاجتماعي. ولم يعد خافيا ان الاصوات التي تدعو فيها الى اعتبار مجالس المحافظات حلقات زائدة ومضرة، تجد لها ما يبرر دعوتها تلك. وأنا اعلن بكل صراحة ان تلك المجالس بوضعها الحالي فقدت دورها التشريعي والرقابي، واصبحت عاملا اساسيا في تكريس الفساد والفوضى الضاربة في كل مكان. ونفس التوصيف ينطبق على مجلس النواب حيث اصبح عاملا ضاغطا على الجهاز التنفيذي لتكريس الفساد واستجواب وزير الدفاع في البرلمان في 2016 كشف الدور الشنيع لهذا البرلمان. اما دوره التشريعي فيكشفه لهاثه المتسارع لاصدار قوانين تتقاطع مع ابسط متطلبات الدولة المدنية الديمقراطية. كما لا يختلف الدور السلبي الذي يلعبه مجلس الوزراء الذي تنخر فيه المحاصصة، واصبح الحديث عن الفساد المستشري في هذه المؤسسات مألوفا وشائعا. والوضع نفسه نجده في مؤسسات اقليم كردستان التشريعية والتنفيذية.
ان المشهد السابق يفرض ما ياتي:
أولا: ثمة حاجة ملحة الى اعادة دراسة النصوص الدستورية جميعها وخصوصا تلك التي تتعلق بالسلطات في المادة (47) والمواد التي تليها، المتعلقة بصلاحيات مجلس النواب ومجلس الاتحاد، والسلطة التنفيذية سواء رئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء ثم السلطة القضائية والهيئات المستقلة، ثم اعادة دراسة الباب الرابع المتعلق باختصاصات السلطة الاتحادية في المادة (110) والاختصاصات المشتركة بين السلطة الاتحادية والأقاليم والحكومات المحلية، واعادة دراسة قانون مجالس المحافظات وتعديلاته. اي باختصار إعادة انتاج رؤية جديدة او نظرية جديدة في الحكم تتناسب مع الحاجات الاساسية التي يتطلبها المجتمع العراقي وفق حركة هذا الواقع.
ثانيا: اثبتت الوقائع ان القوى والتحالف المهيمن الراهن لم يعد قادرا على المضي بمهمة "الدولة الاتحادية الواحدة المستقلة ذات السيادة الكاملة"، كما ورد في الدستور بل اصبح هذا التحالف عائقا امام قيام "نظام جمهوري نيابي ديمقراطي" حقيقي، وتحول الى اداة ولعبة بيد قوى اقليمية ودولية تسعى الى ابقاء العراق دولة ضعيفة تابعة رغم امكانياته وموارده الطبيعية والبشرية الغنية. وهذا يؤكد ما ذهب اليه المؤتمر الوطني العاشر للحزب الشيوعي العراقي (1-3 كانون الاول 2016) من شعار التغيير على طريق الدولة المدنية الديمقراطية.
ثالثا: وانطلاقا مما سبق فان الحزب يواجه ظروفا معقدة للغاية تتطلب منه رؤية جديدة في مجال رسم ستراتيجيته وتكتيكاته لتهيئة المجتمع العراقي الى معارك صعبة على طريق تغيير الدستور والنظام الاتحادي الراهن، بما يؤهله لبناء البديل الوحيد عن الدكتاتورية البغيضة باقامة الدولة المدنية الديمقراطية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 387 – 388
آذار 2017