مدارات

أوكرانيا.. محاولة لفهم ما حدث ويحدث / رشيد غويلب

تتصاعد حدة الصراع في أوكرانيا بين أنصار الاتحاد الأوروبي وخصومه، وتؤثر في الصراع عوامل تاريخية وثقافية محلية وعوامل إقليمية ودولية، ويتشعب الصراع وتتعدد جوانبه وتداعياته. وفي محاولة منها لتسليط الضوء على ما يحدث، قامت مؤسسة روزا لوكسمبورغ الألمانية التابعة لحزب اليسار الألماني باستضافة الصحفي، والناشط اليساري الأوكراني فيتالي اناناسوف، ليقدم تحليله لما يدور في بلاده. وفي ما يلي عرض لأهم ما ورد في تحليله للوحة الصراع في بلده.
لقد جاء قرار الحكومة بإيقاف التوقيع على اتفاقية التعاون ومنطقة التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي بمعنى ما مفاجئا، لان الحكومة بنت إستراتيجيتها الدعائية خلال الـ 18 شهرا الفائتة على تحقيق توقيع الاتفاقية، فباستثناء ذلك ليس لديها ما تفتخر به: الاقتصاد في ركود، والظلم الاجتماعي في تزايد، والفساد لا حدود له. وكان التقارب مع الاتحاد الأوروبي الورقة الرابحة المحتملة، التي كان بامكانها أن تلعبها.
ويعود تعليق كثير من آمال الأوكرانيين على الاتحاد الأوروبي إلى الخيبة الكبيرة، التي عاشوها، لعدم تحقق أحلامهم بأوكرانيا ديمقراطية، ومزدهرة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وهو حلم لم يتحقق، ومن هنا جاء تعليق الآمال الكبيرة على تحقيق تغيير عبر الارتباط والتعاون مع الاتحاد الأوروبي، وغالبا ما تهيمن على السياسة الأوكرانية الصراعات على الأفكار المجردة، بدلا من المشاكل الحقيقية. وهنا يدور الخلاف على الأمة، اللغة، والدين، ولكن المشاكل الاجتماعية الاقتصادية، التي يعاني من تأثيراتها غالبية المواطنين، ليس لها مكان في الصراع العام، وبدلا من ذلك يدور الجدل بين الرئيس والمعارضة حول أيهما أكثر قدرة على الاندماج بمنطقة اليورو.
ولدى التوقف عند الأسباب التي دعت الرئيس الى تغيير موقفه في ملف التعامل مع الاتحاد الأوروبي، يجب التمييز بين البيان المعلن، وما يدور خلف الكواليس. الرئيس يعتقد أن تقارباً سريعاً مع الاتحاد الأوروبي يمكن أن يؤدي إلى صعوبات اقتصادية، في إشارة منه الى الضغط الروسي، وفي واقع ما تزال روسيا تلعب دورا مهما في تزويد أوكرانيا بالطاقة، وفي استقبال صادراتها.
من الواضح أن الرئيس وعد نفسه بالحصول على الكثير من المتنفذين في الاتحاد الأوروبي، ولكن الاتحاد الأوروبي يعيش أزمة، ولا يمكن إهمال السوق الأوكرانية، على الرغم من أن أوكرانيا ليست بلدا غنيا، ولهذا أراد فتح السوق الأوكرانية للشركات الغربية، ولكن الرئيس أراد الحصول على ضمانات اكبر، فشل في الحصول عليها. ولكن الإعلام الغربي يركز على قضية إطلاق سراح، جوليا تيموشينكو، ولو تم الرجوع الى رأي أغلبية الشعب، لتم الحكم على جميع رؤساء الحكومات في أوكرانيا، خلال العشرين سنة الأخيرة، بالسجن المؤبد. لقد كان المتنفذون في الاتحاد الأوروبي على استعداد لتأجيل المناقشة حول هذه القضية، خصوصا بعد إعلان الرئيس بوضوح عن عدم توقيعه للاتفاقية، وعلى ما يبدو كانوا على استعداد للتخفيف من مطالباتهم الشديدة بخصوص الإصلاح، مكافحة الفساد، الخصخصة، وما شاكل ذلك. وهذا يعكس حقيقة طبيعة اهتمامهم بالوضع في أوكرانيا.
من المعروف أن المطالب الاجتماعية لا تحتل مكانا في اهتمام المهيمنين على الحركة الاحتجاجية، وعندما طالبت المجاميع اليسارية بمجانية الصحة والتعليم، جرى اعتبارهم محرضين ولا مصداقية لهم. والمشكلة أن قوى اليمين، وحتى اليمين المتطرف يهيمنون، بواسطة حزب "Swoboda" القومي على الحركة الاحتجاجية، ويبعدون أي منافس يساري. ويبدو مضحكا، أن الناس الذين يدعون الجدل بشأن "القيم الأوروبية" لا يعيرون اهتماما بالمشاكل الاجتماعية، أو بالمساواة بين الجنسين.
ومن الواضح أن مشاركة اليسار في الحركة الاحتجاجية محدودة، ويعود ذلك الى ضعف اليسار في المعارضة خارج البرلمان، واليسار يملك أفكارا مهمة، ولكنه لا يستطيع لحد الآن نقلها الى الشارع. والحزب الشيوعي في أوكرانيا يفضل الانضمام إلى الاتحاد الجمركي مع روسيا، ولكنه يقترح إجراء استفتاء بشأن المسألة، ويمكن أن يكون هذا إجراء ديمقراطيا يحظى بتأييد الأغلبية، والحزب الشيوعي ممثل في البرلمان، ولكنه يعمل القليل من اجل فرض هذا المطلب.
والقضية الأهم أن أوكرانيا غير موحدة بشأن البديل، فالرئيس والأقلية التي يمثلها تتمثل مصلحتهم في البقاء في السلطة، وفي حالة خسارته انتخابات 2015، يمكن أن يكون مصيره وفق "تقاليد" أسلافه، الوقوف في قفص الاتهام، حتى ينتهي بهم المطاف في السجن. ومن جانب آخر يعلم جيدا أن سلطته في خطر، إذا ما أدى قرار يتخذه الى تأثيرات سلبية على مصالح الأكثرية. وفي الواقع أن يسير بطريق مسدود، فهو يحتاج الى منح مالية جديدة، إذا أراد الإفلات من مديونية الدولة، العجز في الموازنة، وانهيار العملة. وصندوق النقد يطالب بتجميد الرواتب التقاعدية والأجور، ورفع أسعار الغاز والطاقة، وإذا ما أقدم على ذلك، عليه أن ينسى إمكانية انتخابه مجددا. والرأسمالية الروسية لا تحتضنه، فهي تبيع الغاز لشعب لأوكرانيا "الشقيق" بأعلى الأسعار. إن روسيا والاتحاد الأوروبي يتنافسان بجدية على "اللقمة الأوكرانية"، وعلى هذا الطريق لا يعيران اهتماما بمصلحة شعبها.