المنبرالحر

رواية عزيز نسين (زوبك) وانتخابات البرلمان العراقي (2)/ كفاح محمد الذهبي

يتفق اغلب الخبراء الاقتصاديين على إن طابع الاقتصاد العراقي ريعي مع تضائل دور القطاعات الانتاجية، الزراعية والصناعية والخدمية، ومع ذلك تكمن الصعوبة في تحديد طبيعة هذا النظام. فالفوضى الاقتصادية هي السائدة ولا توجد استراتيجية محددة يسير حسبها الاقتصاد ولا خطط اقتصادية معلومة الأهداف.
كل السياسيين، وبالذات البرلمانيين العراقيين، يرددون بأن الاقتصاد العراقي يسير وفق مبدأ اقتصاد السوق الحر لكن أيا منهم لا يملك نظرة مستقبلية ولا تفكيرا إستراتيجيا يحدد معالم الطريق. كما أهملت ميزانيات الحكومة المتعاقبة، الصناعة والزراعة (باستثناء الصناعة الاستخراجية) ولم تخصص ما هو مطلوب للاستثمار. إن الحكومات المتعاقبة ولأهداف نفعية انتخابية ضخمت جهاز الدولة إلى أكثر من ضعفين خلال عقد واحد لتزيد البطالة المقنعة بدلا من خيار الاستثمار وتشجيع المستثمرين للقضاء على البطالة التي تخنق نسبة كبيرة من شباب العراق. فالتشغيل في قطاع الدولة يستخدم الآن لشراء الأصوات من خلال توظيف الأقارب وأصحاب الواسطات، خاصة وان الوزارات وباعتراف اغلب النواب صارت حصصا تابعة لحزب الوزير وكتلته. يضاف الى ذلك إن نسبة غير قليلة من ميزانية الدولة تذهب لجيوب الفاسدين، وبدلا من ان يلعب النائب في البرلمان العراقي دوره التشريعي في إصدار القوانين التي تدعم الاستثمار والمستثمرين، والرقابي في محاربة الفساد والفاسدين والدفاع عن المال العام ، نشأ تحالف غير مقدس بين بيروقراطيي الدولة وبعض نواب البرلمان، حيث تحول هذا البعض إلى دلالي مقاولات. فهم يتفقون مع هؤلاء الموظفين للحصول على مقاولات لأقاربهم وأعضاء في أحزابهم مقابل الحصول على عمولات دسمة. يقابل ذلك ان اغلب هؤلاء المقاولين، ممن ليس لهم علاقة بمادة المقاولة وهو بدوره يعطيها إلى مقاولين ثانويين. وفي النتيجة فالمنجز من هذه المشاريع يحمل اسوأ نوعية تخطر ببال احد، بل والكثير منها لا ينجز أبدا. يضاف إلى ذلك، والجميع يعرف، إن القيم المخصصة للأغلبية الساحقة من العقود هي أضعاف مضاعفة لقيمها الحقيقية، بل وأكثرها لا يطرح وفق الأصول القانونية. هذا من جهة ومن جهة أخرى، الويل والثبور للموظف الذي لا يستجيب لطلبات النواب،حينئذ تتعرض له مباشرة لجان النزاهة لتعلن فساده قبل بدأ التحقيق وترسل أوراقه إلى لجنة المسائلة والعدالة للاجتثاث حتى وان لم يكن في يوم ما منتميا لحزب سياسي.
للأسف، دخل ويدخل البرلمان طلابا نجباء لإبراهيم زوبك، رغم إن نشاطهم ومشاريعهم الاقتصادية التي سبقت دخولهم البرلمان كان معبرا حقيقيا عن جوهرهم.
ولنرى الآن كيف وصف لنا عزيز نسين،منذ اكثر من خمسين عاما، السلوك الاقتصادي لزوبك، الذي اقنع الحكومة ببناء أكبر جسر على وادي القامشلك، حيث وصف مياهه بالفياضة وحاجة المنطقة له ماسة لشدة أخطاره، في حين انه مجرى صغير جدا. وكالعادة لم تدقق الحكومة في الموضوع ووافقت على إنشاء الجسر الكبير.

(( ليكن!)، أعلن عن مناقصة لبناء جسر. ونحن نعرف البقية، لقد اشترك في المناقصة أكثر من أربعين متعهدا من أربعين مكانا من المحافظة. ومن متعهد إلى متعهد عمل إبراهيم بيك على كسر السعر، حتى توفر أموال كثيرة. أخذ المتعهدون ينزلون أسعارهم باله من هنا، باله من هناك، فلم يبق غير أن ينفذوا العمل مجانا، أو أن يدفعوا لنا فوقها. لم يقدر أحد من المتعهدين على مجاراة متعهدنا الشهير في تنزيل الأسعار، فذهب إليه زوبك وقال له (أخرج من هذا العمل، وأنا أعطيك نقودا دون مقابل)..لكن عقل المتعهد كان سقيما، فقال بحزم (مستحيل).. فقال إبراهيم بيك (ما دام الأمر كذلك فأنا سأتركها لترسو عليك فادفع لي أنت)...عقله جحش.. أيضا قال (مستحيل).. قال إبراهيم بك (تعال إذا نتعهده شركة، ثم نقتسم الأرباح).. كذلك قال مستحيل). في الحقيقة أراد إبراهيم بيك مشاركة المتعهد، لكونه لا يستطيع القيام به وحده، لان ذلك يتطلب القيام بعدة أعمال مسبقا. غضب زوبك زاده وقال (إنسانيتي تتوقف عند هذا الحد.. الباقي عليك).
ورست مناقصة الجسر على المتعهد، فجاء بالشاحنات والآليات إلى طرف القامشلك، كما تعرفون، ونصب الخيام للعمال وصففت أكياس الاسمنت. وها قد مرت سنتان على ذلك، فلماذا لم يبن الجسر بعد؟ أحزروا..
نظر بعضنا إلى الآخر، تساءلنا:
- حقا لماذا لم يبن بعد؟
فقال:
- لم يبن، ولم يبن. إذا كان هذا الجسر سيبنى فلن يفعل ذلك احد غير إبراهيم بيك. ماذا فعل إبراهيم بك عندما كان المتعهد يجهز للعمل؟ اسـتأجر رمال وادي القامشلك من البلدية بتسعمائة ليرة في السنة، فلم تبق أمام المتعهد بالتالي أية رمال للصبات البيتونية. الرمال كلها لإبراهيم بيك. لا يستطيع المتعهد ان يأخذ من الوادي حبة رمل واحدة، ولا يوجد في المنطقة مقطع رمل واحد. لو أراد أن يدفع كل ما سيقبضه، لقاء صب الكونكريت، أجورا لنقل الرمل، فأنه لن يكفيه. الرجل جن. لقد دفع التأمينات سلفا، فما العمل؟
انبطح المتعهد على قدمي إبراهيم بيك قائلا (أنا كلبك، فاعف عني.. تعال نتشارك.. أنت لا تقم بأي جهد، فقط اترك لي الرمال.. خذ ثلاثة أرباع الربح دون أن تمد يدك.. أجرٍني الرمل الذي استأجرته بتسعمائة ليرة، بتسعين ألف ليرة في السنة). لكن عين إبراهيم بيك – والحمد لله- شبعانة من النقود، فراح يجيبه على كل عروضه بكلمة (هوء)، ثم لا يضيف شيئا، لكأن السكين لا تفتح فمه. عندها قال المتعهد الشهير (ولاه.. كل ما سمعته عن قلة شرفك صحيح. سأفرمك بأذن الله!).. وهرب.
عندما سمعت ما سمعت، طار عقلي من يافوخي. ماذا أقول؟ لقد اختلط علي اثر الذئب بأثر الكلب، ولم يعد معروفا البائع من الشاري. أنه رجل يحيي الموظف الميت، ويخصص له معاشا من الخزينة فماذا بقي.
- لن أقول لكم شيئا أيها الأصدقاء. أنا منذ البداية، لم أكن أرى أليق من زوبك للنيابة.))

لا أظن ان إنسانية الدلالين من نوابنا اكبر من إنسانية إبراهيم زوبك. ولكن، كم من هؤلاء سيدخل البرلمان القادم، رهن بجرأة من يقف بوجه الزوبكية ولا يتدجن معها.