المنبرالحر

حقوق الجماعات المحرومة او الضعيفة / المحامي هاتف الاعرجي *

من السمات المميزة للقانون الدولي المعاصر عموما والقانون الدولي لحقوق الانسان خصوصا الإقرار بحقوق معينة لبعض الجماعات او الفئات المحرومة او الضعيفة، مثل الاقليات والسكان الأصليين والنساء والأطفال والعمال المهاجرين. وتوصف اشكالية الأقليات وحمايتها في القانون الدولي بأنها من اكثر الموضوعات تعقيداً وغموضاً، فالأقليات ليست ظاهرة منعزلة عن بنيان المجتمع الدولي بل مرتبطة ارتباطاً عضوياً ببنية احدى الوحدات الأساسية المكونة للمجتمع الدولي، وهي الدولة.
ان اغلب الدول القائمة اليوم ليست متجانسة طبيعياً او اثنياً، قومياً او لغوياً ودينياً. فهي دول متعددة القوميات والأثنيات، ولكن ليس كل هذه الدول تعاني عدم القدرة على التوفيق بين مصالح الجماعات المختلفة الموجودة داخلها وبين خصوصياتها. فهناك دول متعددة الأثنيات لا تعرف اشكالية الأقليات، حيث تتمتع فيها الاقليات بحقوقها الفردية والجماعية، وبحرية التعبير عن هويتها وإنتمائها. ان مشكلة الاقليات وحمايتها تبرز حين تمارس الدولة التي تعيش الأقلية في كنفها اضطهادا ضدها. فتمنع عنها حقوقها وتعرقب سعيها للمحافظة على وجودها الإثني المميز والمستقل داخل نسيج الدولة.
يذكر الدارسون مجال القانون الدولي أن الارهاصات الأولى للأقليات بدأت في القرنين السادس عشر والسابع عشر بشأن حماية الأقليات الدينية. وتكرست هذه الفكرة في علاقة الدول الغربية بالأمبراطورية العثمانية حيث فرضت الأولى على الأخيرة عدداً من القيود لحماية المسيحيين الموجودين تحت سلطانها. كما وجدت الفكرة صدىً قوياً لها في معاهدة برلين (1878م) التي قبلت بمقتضاها الدول الاوربية الجديدة (بلغاريا، صربيا، الجبل الاسود، ورومانيا) وكذلك تركيا الالتزامات المنصوص عليها فيها، والمتعلقة بحماية الحريات الدينية والمساواة لمصلحة الاشخاص المنتمين الى الأقليات. إلا ان حماية حقوق الأقليات بقيت مجرد حالات معزولة، ولا تعبر عن سياسة قانونية عامة حتى انشاء عصبة الامم التي وضعت نظاماً دولياً لحماية الأقليات طبق في مواجهة عدد محدود من الدول.
عصبة الأمم وحقوق الانسان
أسفرت المآسي التي نجمت عن الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 عن اتفاق الدول المنتصرة المجتمعة في فرساي على انشاء عصبة الأمم، فجاءت معاهدات السلام بين دول الحلفاء واعدائها هم المانيا والنمسا وبلغاريا والمجر وتركيا لتنظم نظام العصبة في 28 نيسان 1919.
ولا يتضمن عهد العصبة أية احكام عامة بشأن حقوق الانسان والحريات الاساسسية، بل قوبل اقتراح الرئيس الامريكي (تودور ويلسون) تضمين العهد نصاً بشأن الحرية الدينية التي تخضع الى النظام بالرفض. كما قوبل اقتراح ياباني بأن يتضمن العهد نصاً خاصاً بالمساواة  ليس بين جميع البشر، وإنما بين الاجانب الذين يتمتعون بمواطنة الدول الاعضاء في العصبة بالرفض ايضا(1).
ولكن عهد العصبة الذي تضمن نظام الانتداب أوجد بعض الضمانات المتواضعة للشعوب التي تخضع الى النظام المذكور. بيد أنه لا يتضمن نظاماً لحماية الاقليات. وبموجب المادة (22) من عهد عصبة الأمم، أنشئ نظام الانتداب، وهو نظام استعماري، اطلق عليه هذا المصطلح زيفاً وتضليلاً. وقد طبق هذا النظام على الدول المهزومة في الحرب العالمية الاولى والاقاليم وخاصة في افريقيا والشرق الاوسط، وبموجبه تعهدت الدول القائمة بالأنتداب (وهي دول استعمارية) بالعمل على رفاهية وتقدم الشعوب الموضوعة تحت انتدابها وهي (مستعمرات في الحقيقة) بأعتبار ذلك امانة مقدسة في عنق المدنية. ويوفر العهد حماية متواضعة جدا لسكان الاقاليم المشمولة بنظام الانتداب.
وقد تعهدت الدول الاعضاء في العصبة بالعمل على توفير المعاملة العادلة للسكان الوطنيين في الاقاليم المشمولة برقابتها (م22/7). وتقوم اللجنة الدائمة للانتدابات والتي تتكون جزئياً من الأهالي المحليين بتقديم المشورة الى المجلس في المسائل المتعلقة بتطبيق احكام الانتداب (م22). وابتداء من عام 1923 اصبحت تقوم بتسلم التماسات خاصة في هذا الأمر.
وادت لجنة الانتدابات دوراً مهماً في الاشراف على ادارة الدول المنتدبة وعلى اسلوب معاملتها لأبناء الأقاليم الخاضعة لنظام الأنتداب، وانتهى هذا النظام مع حل عصبة الأمم، غير ان الأمم المتحدة انشأت نظاماً بديلا (هو نظام الوصاية)، الفصل الثاني عشر من ميثاق الأمم المتحدة الذي انتهى بدوره مع بلوغ الأستقلال للأقاليم الخاضعة اليه كافة.
نظام حماية الأقليات
ويتضمن تظام حماية الأقليات الذي أنشأته عصبة الأمم اقرارا مبكرا من جانب الدول لحاجة مجموعة من الافراد المؤلفين فيما بينهم أقلية الى الحماية من الدول التي يخضعون الى سلطاتها. وبذلك تختلف حماية الأقليات عن الحماية الدبلوماسية وحماية الأجانب في انها تكون في مواجهة الدولة التي تخضع الأقليات فيها الى سيادتها، اي في مواجهة دولة الجنسية خلافاً لما عليه الحال في الحالتين الأخيرتين حيث تكون الحماية في مواجهة دولة الأقامة.
وقد استند معظم الصكوك الدولية المتعلقة بحماية الاقليات الى مبدأ مؤداه فرض الدول القوية ضمانات على الدول الاضعف في اتفاقات تبرم في ما بينها على حماية الاقليات الدينية. كما تضمنت معاهدة (وستفاليا) المعقودة عام 1648 والاتفاقات البولونية الروسية المعقودة في عام 1767 و1775 نصوصاً مماثلة.
وفي مؤتمر فينا المنعقد عام 1815 , أعلنت كل من النمسا وبروسيا وروسيا رغبتها في احترام جنسية رعاياها من البولنديين. كما عبر البيان الختامي لهذا المؤتمر عن وجوب احترام الحقوق الدينية للأقليات وعدد من الحقوق المدنية، وفرضت معاهدة برلين المعقودة عام 1878 التزامات على تركيا بشأن حماية جميع الرعايا والمساواة فيما بينهم.
وجاءت الحرب العالمية الأولى التي كان لكفاح الاقليات القومية والدينية في اوربا الشرقية والوسطى من اجل الاستقلال دور مهم في اندلاعها لتغير الخريطة السياسية والديمقراطية لأوربا والشرق الأوسط.
وظهرت في اعقابها دول جديدة، واعيدت الى الوجود دول سابقة، في حين جرت تجزئة دول ثالثة، وبرزت بالنتيجة اشكالية الأقليات الأثنية واللغوية والدينية في العديد من الدول.
ولعل الانتقائية في تطبيق مبدأ القوميات والحق في تقرير المصير لأسباب سياسية واستراتيجية هي التي كانت وراء ظهور هذه المشكلة وتفاقمها في القارة الاوربية.
ومن الصعوبات التي يواجهها الباحث عند دراسته الحماية الدولية لحقوق الأقلية  هي مسألة تعريف الاقلية، في القانون الدولي. فليس هناك الى الآن أي تعريف مقبول عموماً في القانون الدولي للأقلية.
ولكن عدم وجود تعريف للأقلية لن يؤثر طبعاً في الحماية الدولية لها، لأن هناك جملة من المعايير والضوابط التي اضحت محل اتفاق لدى الدارسين والمختصين.
ولعل التعريف الذي قدمه البروفيسور كابوتورتي في دراسته المقدمة الى لجنة حقوق الانسان قد لاقى رواجاً كبيراً. ومن اكثر هذه الضوابط أهمية الى جانب العدو والسمات الموضوعية والعنصر الشخصي، هو ضابط الوضع غير المسيطر، فالوضع الاقصائي لأفراد الاقلية داخل المجتمع هو الذي يدفعهم الى التمسك بخصوصيتهم، والى المطالبة بالحصول على وضع أقلية(2).
وهنا تعريف الأقلية, فهو مجموعة من الاشخاص الأقل عدداً من أغلبية مواطني الدولة، وتكون في وضع غير مسيطر وتتوافر لأفرادها سمات إثنية او دينية او لغوية، تختلف عن خصائص بقية السكان، وتبدي ولو بشكل مستتر شعوراً بالتضامن بغية الحفاظ على هويتها او ذاتيتها المميزة لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
باحث قانوني*
(1) الدكتور محمد يوسف علوان والدكتور محمد خليل الموسى/ القانون الدولي لحقوق الانسان – الحقوق المحمية - / دار الثقافة للنشر والتوزيع/ عمان – وسط البلد/ عام 2005 / ص31.
(2) الدكتور محمد يوسف علوان والدكتور محمد خليل الموسى/ القانون الدولي لحقوق الانسان – المصادر ووسائل الرقابة – الجزء الاول – دار الثقافة للنشر والتوزيع – عمان 2005 / ص 34.