المنبرالحر

أمّا بعد! / قيس قاسم العجرش

ليس اكتشافاً جديدأً أن نقول :إن اللغة سجنتنا منذ عهد طويل. ليس لأنها غير قابلة للتمرّن والإستيعاب، بل لأن اللغة في العادة تكون انعكاساً لمعدّلات التفاعل والإدراك في المجتمعات. ومجتمعاتنا اختارت أن تسير بمسارين، تفكير محلّي لا يستوعب الممكنات العالمية وتفكير شمولي يحيل الأسباب الى القوى العالمية العملاقة أو الغيبيات التي لا تقهر.
واللغة صاغرة تبعت هذه الثنائية بين المحلي والعالمي، وصارت العامّية لا تتفاهم مع الفصحى والفصحى بدورها ترفع أنفها على أي دخيل وتسميه(أجنبياً)وأعلنت غلق باب الإجتهاد، وهذه لها قوانينها وتلك لها قوانينها.
صار التلفزيون مرقاباً وصار التلفون هاتفاً وصار الراديو مذياعاً واكتفت عند هذا الحد، فلم تورّط نفسها في تعريب(الإنتليجينسيا) أو (اليوتوبيا) أو تفاصيل (الفرانكوفونية) لكن يمكن رصد كتّاب يتعمدون توريط اللغة التي استراح ضميرها منذ زمن.
كتب أحدهم يقول: لم تدهشني عبارة في اللغة أكثر من عبارة (أمّا بعد) فهي تشعرني بأن كل ما قيل في الإفتتاح والإستهلال إنما كان عبثاً والآن سنبدأ بالكلام.
فيما استأذن أحد الأصدقاء الفرنسيين صاحبه قبل أن يقدّم لي شيئاً من علبة الشوكولاتا الموضوعة على الطاولة، فان إستئذانه وطريقة (موافقة) صاحبه جعلتني امتنع شاكراً. لكنّه فاجأني بالقول: أعرف أن عليكم أن تقبلوا التقدمات بعد المرّة الثالثة من الإلحاح ! ودفعني الفضول معه الى أن أسأله: ماذا تعرف بعد عن خفايا هذه العادات؟ مالذي وصلك منها؟.
إحدى ملاحظاته كانت تتعلق بطريقة طرح التساؤلات والمواضيع، اكتشف صاحبنا أن المتحدّثين بلغتنا غالباً ما يصرفون عبارات هامشية كثيرة قبل أن يدخلوا في صلب الموضوع، وغالباً ما تكون العبارة غير مفهومة من القراءة الأولى أو الإستماع الاول.
أما بعد.. تكشف أن ثقافتنا تذخر الجوهر الى لحظة يراها المتحدث مناسبة، فقط إن وجدها مناسبة ولم يسأل نفسه كيف سينتظره الآخر المتلقي.
أما بعد، حيث تأتي الأشياء المهمة دائمأً( فيما بعد)، بعد أن يكون الزَبَد أمطرنا بفائضه الى أن يحال على التقاعد.
وتتكلم الكلمات لوحدها وتستكثر من الهذر مثل الأميبا الإنقسامية بينما يضيع اللب ببساطة.
دائمأً كنا نتمرّس بهدر اللُّب وتفتننا القشرة وكثرتها. فعلت ذلك ثقافتنا وفعلت ذلك معها اللغة باعتبارها محركا ثقافيا هائلا يقود وسائل التفكير.
الآن ننتظر(ما بعد)هذا، لأنه أكثر أهميّة وأطول تأثيراً وأوسع بقاءً.
الـ (ما بعد) هو الأهم...حتى لو تأخر فلن تضحك علينا افتتاحيات السياسة كما فعلت افتتاحيات التراث واللغة دائماً.