المنبرالحر

الجراديغ .. وتمر البصرة / عبد السادة البصري

منذ القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن العشرين كانت منطقة (الداكير) في العشار تعج بـ ( الجراديغ) وهي عبارة عن مخازن للتمور، يُجمع التمر فيها ويُخزن ثم يُصدر الى كل دول العالم، إضافة الى ما يُصدر عبر أنهار أبي الخصيب والسيبة والفاو. فالبصرة كانت معروفة بكثرة نخيلها وحلاوة تمرها الذي يزرع بمئات الأنواع: الدكل، الحلاوي، الخستاوي، البرحي، البريم، الساير، القنطار وغيرها الكثير، وكل رحالة مر بها سجل اعجابه واندهاشه بغابات النخيل الوارفة وتنوعها.
البصريون كانوا من زارعي النخيل الأوائل في العالم، إذ تنتشر البساتين على جانبي الشط إمتداداً من القرنة وحتى الفاو، وكانت أول زخة مطر يسمونها ( غسالة اليواخين) واليوخان عبارة عن (دكة ) كبيرة يُنشر عليها التمر قبل كبسه في (حلانات) تصنع من الخوص، وتهيأ قبل موعدي ( القصاص، والطواش). ولهذين الموعدين طقوس جميلة يجتمع فيها البصريون رجالا ونساءً ويكون عملهم مصحوبا بالأغاني والهوسات والمواويل( غناء الطواشات).
وصل تمر البصرة ذو النسبة العالية من السكر الى كل دول العالم وبالأخص دول الخليج والهند عن طريق البحر بواسطة ( المهيلات) والمراكب الشراعية الأخرى. وقد أطلق عليه ( ماكنتوش البصرة)أسوة بالحلويات والجكليت. وفي الجراديغ كان البصريون رجالاً ونساءً يعملون بكل نشاط لإيصال منتوجهم الى كل مكان. ومن الجراديغ انطلقت أكثر من تظاهرة وإضراب للمطالبة بتحسين المعيشة وزيادة الاجور اليومية.
البصرة التي كانت مضرب الامثال بكثرة نخيلها الذي قيل ان عدده تجاوز الثلاثين مليون نخلة، أصابها ما أصابها من الهم والقهر جراء ما أصاب نخيلها من ويلات الحروب وتجريف البساتين وملوحة مياه الشط. ففي الثمانينيات ونتيجة للحرب ضد ايران فقدت البصرة نسبة كبيرة منه نتيجة الشظايا والقنابل ،إضافة الى آلة التجريف والخراب التي فعلت أفاعيلها، كذلك عمليات قلع النخيل ونقله الى مدن أخرى أو بيعه الى دول الخليج، لتزدهر زراعته هناك وتضمحل هنا، فتتحول البصرة من مصدرة للتمور الى مستوردة!
صرنا نستورد التمر والدبس من الدول التي كنا نُصدر لها، وتهدمت الجراديغ وصارت أيامها حكايات وذكريات نسمعها من الشيوخ والعجائز وهم يتحسرون على ما أصاب بساتين النخيل من خراب ودمار. توقفت صناعة الدبس وملحقاته واختفت مكابس التمور وتلاشت معامل الحلويات نتيجة قلة مايُنتج من تمر بسبب قلة النخيل وعدم زراعته.
علينا اليوم أن نُفكر جيداً بكيفية إعادة ( عمتنا النخلة) الى سابق عهدها وزهوها من خلال التشجيع على زراعتها ودعم الفلاحين والعناية بها لأن منتوجها يدعم الاقتصاد الوطني ،وتدخل في أكثر من مجال صناعي بتمرها وجذوعها وخوصها وأليافها. فضلا عن إضفاء الخضرة والبهجة والجمال على حياتنا.