المنبرالحر

في ذكرى الاحتلال البريطاني الأول للبصرة : ما أشبه الليلة بالبارحة 1914/ غريب دوحي

في ظل انقسام دول العالم إلى معسكرين متنافسين وفي ظل الصراعات الدولية بسبب اختلاف المصالح لا نجد غرابة في اندفاع بريطانيا لاحتلال العراق. وكانت البصرة هي النافذة التي أطلت منها بريطانيا عليه تمهيداً لاحتلاله حيث كانت ترى أن احتلال البصرة مسألة حيوية في إستراتيجيتها العسكرية وكذلك أهدافها الاقتصادية لحماية مصافي وأنابيب النفط في عبادان، وقد شجع انسحاب الأتراك السريع والمفاجئ البريطانيين على التقدم شمالي البصرة ومن ثم إلى بغداد.
تمكن البريطانيون من احتلال الفاو أولاً في 6/11/1914 من دون مقاومة مما سهل عليهم الانتصار على العثمانيين في معركتي (سيحان) و(كوت الزين) والمعركة الأخيرة هي التي قررت مصير البصرة حيث أخذ عملاء الإنكليز يبثون الإشاعات بين الناس عن هزيمة الأتراك والناس كانوا يصدقونها، كما ذكر ذلك الدكتور علي الوردي في كتابه ((لمحات اجتماعية، ج4)):
(( وكانت البصرة خلال الأشهر الثلاثة التي سبقت الاحتلال البريطاني تعاني كساداً شديداً من جراء إعلان النفير العام وتوقف النقل البحري وأحجام السفن البريطانية في هذا الوقت عن الدخول إلى شط العرب فظلت أكداس التمور في مخازنها من دون ان يتمكن أصحابها من تسويقها إلى الخارج رغم أنها كانت جاهزة للتحميل.)) (البصرة ذات الوشاحين، حسين بن سعدون).
وكانت الدفاعات العثمانية العسكرية ضعيفة جداً مما سهل على القوات البريطانية احتلال البصرة في 22/11/1914 وانسحاب القوات العثمانية إلى القرنة شمال البصرة حيث واصلت القوات البريطانية زحفها وهي تلاحق الأتراك وتمكنت من احتلال القرنة بعد انتصارهم في معركة المزيرعة، أما في الجانب الغربي من البصرة فقد وقعت معركة كبيرة بين القوات البريطانية وقوات المجاهدين العراقيين الذين يقاتلون إلى جانب الأتراك يوحدهم العامل الديني وقد حفزتهم على القتال الفتاوى التي صدرت من رجال الدين في النجف وكربلاء والتي تحثهم على نصرة الأتراك ومقاومة الغزاة الكفرة فكانت معركة الشعيبة إحدى المعارك المهمة التي جرت عام 1915 والتي أنكسر فيها الأتراك والمجاهدون بسبب عدم التكافؤ العسكري بين القوتين وأدت إلى انتحار قائد القوات التركية سليمان باشا العسكري.
إن ما يلفت الانتباه في مسألة احتلال البصرة هو ليس سرعة القطعات العسكرية أو بطؤها أو شجاعة الجيش وانهزاميته فهذه أمور عادية تحصل في كل المعارك الكبيرة منها والصغيرة أنما الملفت للنظر هو موقف وجهاء البصرة بشكل خاص من الاحتلال وموقف أهل البصرة بشكل عام منه والأسباب التي تقف وراء هذه المواقف التي أقل ما يقال عنها أنها مواقف انتهازية وتعكس الازدواجية التي طالما أشار إليها علماء الاجتماع في شخصية الفرد أو المجتمع.
أما المشاهد الاحتفالية التي قامت بها سلطات الاحتلال والأهالي فقد ذكرت في أكثر من مصدر يؤرخ لتلك الفترة ففي كتاب ((دور الشيعة في تطور العراق السياسي لمؤلفه عبد الله فهد النفيسي)) يقول: في ذات اليوم الذي احتلت فيه البصرة جرى عرض عسكري سار فيه الجيش البريطاني شاقاً طريقه عبر شوارع المدينة إلى نقطة قرب مصب العشار حيث تجمع القناصل الأجانب ووجهاء المدينة الذين جرى تقديمهم من قبل القنصل البريطاني (بولارد) إلى الجنرال (باريت) بغية التعرف عليهم، ورفع العلم البريطاني على إحدى البنايات، وأطلقت المدافع تحية وهتفت الجماهير بحياة جلالة الملك الإمبراطور ملك انكلترا...
عيّنت السلطات الرائد (دارسي براوند) حاكماً عسكرياً، وتولى (برسي كوكس) مهمة بناء الجهاز الإداري فقام ببناء مؤسستي الحاكم العسكري والشرطة وطلب من المواطنين تسليم أسلحتهم وحضر التجوال بعد الساعة التاسعة مساءً ثم استعان بالمختارين والحراس مقابل راتب شهري قدره (10) روبيات واتخذ الحاكم العسكري مستشاراً له من بين وجهاء المدينة وتم تسيير دوريات من الشرطة ليلاً لحفظ الأمن وتم كذلك شنق عدد من اللصوص وتعليقهم في إحدى ساحات العشار ثم أنشأت مراكز للشرطة في المعقل وأبي الخصيب والفاو والقرنة وبذلك أصبحت البصرة تحت الإدارة المباشرة للسلطات البريطانية.
موقف وجهاء المدينة:
الحرب عبارة عن ظاهرة سياسية اجتماعية خاضعة لأهداف سياسية لدى طبقات معينة أو هي كما يقول لينين (أن الحرب هي مجرد استمرار للسياسة بوسائل أخرى) وتظهر أثناء الحروب التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتناحر بين الطبقات وعلى هذا الأساس فإن الطبقات الاجتماعية في البصرة المتمثلة بملاك الأراضي وكبار التجار والبرجوازيين الصغار قد أظهروا أثناء الحرب سرعة تغيير ولاءاتهم وانتهازيتهم الواضحة منذ اليوم الأول للاحتلال وذلك يعود إلى تضرر مصالحهم الاقتصادية بالدرجة الأولى من أمثال طالب النقيب وعبد اللطيف المنديل وصالح بيك العبد الواحد وغيرهم كما أنهم ضربوا عرض الحائط إعلان الأتراك الجهاد لمقاومة الغزاة وحتى أهالي البصرة لم يعطوا الجهاد إذناً صاغية ذلك لأنهم عانوا طويلاً من ظلم واضطهاد الأتراك سنوات طويلة فكيف والحالة هذه يقاتلون إلى جانب من ظلمهم وسامهم سوء العذاب، لهذا فلا يستغرب من أهالي البصرة ووجهائها الترحيب بالمحتل ومؤازرته ومشاركته في استتباب الأمن حتى ان صالح بيك العبد الواحد آخر مدير بلدية للبصرة في العهد العثماني كان قد ألف لجانا شعبية لتنظيم وحماية البصرة كما جرى اتصال بين السلطات البريطانية والشيخ إبراهيم العبد الله في الزبير.
لقد تكرر هذا المشهد مرة أخرى أثناء الاحتلال البريطاني للبصرة في 6/نيسان/2003م حين دخلت القوات البريطانية مركز المدينة دون مقاومة باستثناء مقاومة ضعيفة قام بها أعضاء في حزب البعث المتمركزين في مبنى جامعة البصرة قرب ساحة سعد ثم تلاشت هذه المقاومة بسرعة فواصلت القوات تقدمها نحو العشار وكان الناس وهم يقفون على جانبي الشارع يلوحون بعلامات النصر للقوات الغازية. أن تعليل هذه المظاهر يعود بالدرجة الأولى إلى السياسة التي اتبعها نظام البعث الدكتاتوري القائمة على البطش والقتل وكم الأفواه ومحاربة كل من هو وطني بالإضافة إلى الحروب الخارجية التي أرهقت البلاد وقتلت الملايين من أبنائها.