المنبرالحر

مراجعة العملية السياسية في ضوء نزاع الهويات / د. أحمد ابريهي علي

تأسس العراق الحديث، مملكة ، في ظل الانتداب البريطاني، نتيجة لما انتهت إليه الحرب العالمية ألأولى وما آلت إليه البلاد التي كانت ضمن السلطنة العثمانية. ونال عضوية عصبة الأمم اعترافا باستقلاله عام 1932. واستبدل الانقلاب العسكري في تموز عام 1958 الملكية بالجمهورية لتبدأ حقبة أخرى انتهت بالغزو الأمريكي و انهيار النظام عام 2003. و قد واجهت المهمة الشائكة لإعادة تشكيل هيئات السلطة والنظام السياسي الجديد قوة الإحساس بالانتماء للجماعة الفرعية ( عرب؛كرد؛ تركمان؛ ...؛ مسلمين؛ مسيحيين؛...؛ سنة؛ شيعة؛...) و هذا الانتماء فعال في إنتاج أنماط متفاوتة وأحيانا متناقضة من السلوك السياسي و المواقف العملية.
وان الكثير من المفاهيم مثل السيادة وألاستقلال والوطنية والعدالة والسلم ألأهلي والجريمة السياسية وألإرهاب و حقوق ألإنسان ... قد تجد لها مضامين مختلفة إلى حد يجعل التوافق أمرا في غاية الصعوبة .و نزاع الهويات ،هذا، قد أسهم من بين أهم العوامل في المسار الذي أوصل إلى التاسع من نيسان عام 2003. و الى جانب إعلان الكرد عن عميق إيمانهم بأن لهم الحق في دولة مستقلة منذ اللحظة ألأولى لتأسيس المملكة العراقية ، فان جماعات أخرى بقيت تشعر بالحيف الثقافي أو ألاثني أو الغبن السياسي .و مع تعدد الهويات آنف الذكر عاش العراق نزاعا ، ظاهرا أو خفيا، بين تياراته السياسية حول هوية الدولة في العراق ومن أبرزها: العربية ألإسلامية ؛ العروبة السياسية الوحدوية؛ العراقية ؛الهوية المدنية والمواطنة القانونية . وبعيد الرابع عشر من تموز عام 1958 شهد العراق استقطابا حادا بين تيار النزعة العراقية،التي مثلها قاسم وجماعته وآزرها ليبراليون ويساريون ذوي الميل إلى ألأمة العراقية المدنية ،وذلك في مقابل تيار العروبة و مشروعها الوحدوي ألاندماجي و معه ألأسلاميون . تيار العروبة لا ينظر إلى العراق مصيرا نهائيا لشعبه بل إن الجمهورية العراقية دولة قطرية مؤقتة وليست امة بالمعنى السياسي ألأوربي للكلمة.اما تيار النزعة العراقية فقد رفع شعار الجمهورية العراقية الخالدة ، وأطلق العروبيون على هذا التيار صفة القطري وأحيانا الشعوبي والتي تعني الحاسد للمجد العربي والحاقد على العرب.
لقد انتقم انقلاب شباط عام 1963 من ذوي النزعة العراقية ، واحتكرت العروبة الوحدوية هوية الدولة حتى انهيارها في نيسان 2003. لقد بقي هذا التيار أسير التنميط ألأيديولوجي البسيط لتاريخ العرب والمسلمين . ودخل العراق منذ بداية الحرب العراقية ألإيرانية في تغذية متبادلة متعددة الوسائط مع المشرق العربي مؤداها تنشيط الولاء المذهبي في الدين، في سياق الجهد التعبوي للحرب. وأخذ نطاق ألانقسام الطائفي يتسع و نما بعد انتفاضة عام 1991 ما أدى إلى انحسار العروبة السياسية، وعجزها التعبوي عن إسناد وحدة الدولة بعدما استوعبها ألانقسام الطائفي للمشرق العربي بالكامل ،والذي استحكم بعد عام 2003 . وبلغ ذروته في الحرب ألأهلية في السنوات 2005- 2007 و تفاعل بطريقة معقدة مؤديا إلى انفجار بركان الدم الذي لم يهدأ في سوريا.
والنتيجة عندما جحد العراقيون نعمة الله عليهم ، هذا الوطن العريق ، ولم يتخذوه هوية لأمة ينتمون إليها في دولة توحدهم على الحرية و الكرامة والعدالة والتكافؤ في حق المواطنة خسروا كل شيء . وليس أمامهم سوى إعادة اكتشاف العراق والتوجه إليه بفخر وشرف .
لقد أنتج التأسيس الجديد ، رغم نواقصه القاتلة ، دستورا مستفتى عليه ، و انتخابات تماثل إلى حد كبير ما يجري في البلدان الديمقراطية، و نظام حكم نيابي و فضاء للرأي و الرأي الآخر، و حريات واسعة في تشكيل ألأحزاب و منظمات المجتمع المدني. ولقد تزايد مورد النفط و ساعد على التوسع في التشغيل الحكومي للقوى العاملة في ألأنشطة المدنية و الأمنية . ومع نمو ألأنفاق الحكومي بمعدلات عالية تزايدت المستوردات و الدخل العائلي و مستوى المعيشة إلى جانب التفاوت في توزيع الثروة و الدخل و معاناة فئة من العراقيين دون خط الفقر . و استعاد العراق عضويته في المجتمع الدولي و تقدم بخطى كبيرة في إنهاء المخلفات السلبية للحروب و الحصار نحو التحرر التام من قيود الفصل السابع لميثاق ألأمم المتحدة. لكن على هذا المسار شهد العراق الكثير من أهوال العذاب و الرعب و التخريب و القتل الجماعي . و تفاعل التوتر ألاجتماعي و تكرار وقائع القتل المأساوي مع سوء ألإدارة و التجاوز الواسع على المال العام و إنفاقه دون انجازات متناسبة و ملموسة في البناء التحتي و الخدمات و فرص العمل المنتجة. و بقي الكثير من الشباب و منهم المتعلمون يتزاحمون في ألأعمال الهامشية للقطاع غير المنظم و ألأنشطة الصغيرة. بسبب استمرار تراجع دور الصناعة و الزراعة و اقتصار التوسع على التجارة و النقل و البناء و التشييد على نطاق محدود الى جانب الخدمات الحكومية. وعانى العراق اضطراب آليات الضبط ألاجتماعي و تدني المعايير الحاكمة للسلوك في خضم احتدام الجدل و التناحر الدموي للمصالح و التطلعات الفئوية و الحزبية و الشخصية. تلك التجربة ، التي خلفت في نفوس الكثيرين من رواد ألإصلاح اليأس و القنوط، أفصحت عن حقائق عميقة و كشفت طبيعة العقبات التي حالت دون النجاح والتقدم.
لقد تبلورت قناعة للقيام بمراجعة و طنية شاملة لمسيرة العراق و العملية السياسية بعد عام 2003 بجميع عناصرها وأبعادها ألإقليمية والدولية والوقوف على فرص وعقبات التطور السياسي اللاحق للعراق. وجاءت تلك القناعة نتيجة ألإحساس بالفشل . بل وحتى الخوف ، ربما، من مخاطر أكبر . وأيضا عدم الوضوح بشأن تأخر النهضة التي طال انتظارها لاقتصاد العراق. ولازالت ملفات ألاستثمار النفطي واستحقاقات الشركات وحدود ألإقليم عالقة . لتضاف إلى ما يواجه العراق من مواقف دول الجوار مستغلين عدم تماسك الدولة وضعف سلطتها الوطنية الذي يغري الآخرين بالتدخل السافر و مزاولة النفوذ الواضح في الداخل العراقي.
ولم يعد من الممكن أخلاقيا، في مواقف المثقفين وأهل الخبرة والفكر، مسايرة التبسيط والمجاملات . ولابد من نهاية لنزاع طال أمده على النفوذ و المواقع و ألأدوار ضحيته ألإنسان و أمنه و قيمه و حقه في الكرامة والعدالة والرفاه. لقد انشغلت ألأحزاب والزعامات السياسية في العراق في ألأحداث اليومية ونتائج النزاعات الرئيسة واتخذتها محورا للمناورات والجدل المرير والتنافس المقوض لمقومات السلم ألأهلي وألأمن الوطني. ويمكن القول ان العملية السياسية كانت بمثابة إدارة فاشلة للنزاع دون حله . وبدلا من توجيه الحراك نحو إنهاء جذري للمشكلات الكبرى والتناقضات الرئيسة يجري صرف ألانتباه نحو حوادث جزئية هي في حقيقتها نتيجة التأجيل وغياب ألاستعداد لمواجهة الحقائق والتفاوض بشجاعة وشفافية لإنهاء تلك التناقضات.
واحتراما لتضحيات الشعب العراقي من الضروري التوجه المنظم والهادف نحو دراسة موضوعية وشاملة لخصائص الوضع العراقي وآفاق المستقبل القريب. وتوظف في تلك الجهود أفضل قدراتنا الوطنية في الخبرة والمعرفة المتخصصة. وللبحث بإخلاص عن شروط ولادة الكتلة ألاجتماعية الكبرى التي تستطيع فرض حرمة الدم العراقي وانطلاق النهضة الشاملة على مسار آمن .
ونرى لذلك تغطية الموضوعات ذات العلاقة لأعداد الخلفية التحليلية للمرحلة الممهدة للتفاوض و منها:
ألانقسام الطائفي /ألاثني ، الخلفيات ألاجتماعية - الثقافية واليات تعميق ألانقسام في السنوات الماضية؛ الدستور وإعادة بناء الدولة؛ الحراك السياسي الفئوي والحزبي وآفاق المستقبل ؛ التنمية ألاقتصادية المعاقة والنهضة المنتظرة؛السياق الدولي- ألإقليمي للانقسام والنزاع في العراق؛ سلوك النخب القائدة في العراق ودورها في مواجهة الفساد و التعطيل و التخريب وإسهامها في ألإصلاح و التغيير ألايجابي وإرساء مقومات السلم ألأهلي. ومن جملة أنشطة هذه المراجعة مؤتمرا واسعا يعقد لتناول الموضوعات آنفا بمنهجية وأمانة مهنية قدر ألإمكان . وذلك مقدمة للتفاوض بشأن المسائل الكبرى في العراق التي لم تحسم في مرحلة التأسيس. وأهمها حدود إقليم كردستان و تعريف صلاحيات السلطة ألاتحادية في إدارة الثروة وألأمن على مستوى ألأقاليم والمحافظات في كل العراق . وتقييم التجربة الحالية للفدرالية والتصورات المعروضة في الساحة السياسية. وهل ينظر الى العراق خارج كردستان على انه إقليم واحد مثل كردستان ويجب أن تكون له حكومة يتفق على معايير تشكيلها ،أم يبقى هكذا يدار بالسلطة ألاتحادية . أو يوزع على أكثر من و لأية تنتمي إلى إقليم واحد في مقابل كردستان ، أو عدة أقاليم متماثلة أو مختلفة تتصل مباشرة بالسلطة ألاتحادية . إن الدستور بحاجة إلى تعديل ، لإزالة الغموض وعدم التحديد المتعمد بسبب صعوبة التوافق على الوضوح في حينه. ويعبر التعديل المنتظر عن نتائج إعادة التفاوض التفصيلي بين المجموعات السكانية: الكرد والعرب ثم السنة والشيعة والمجموعات ألأخرى. وتبقى مشكلة حل النزاع على السلطة في المركز مسألة مهمة والتعامل معها يقتضي ألإفاضة في عرض الحقائق دون لبس وبشفافية تامة مع تعريف إجرائي لمفاهيم المشاركة والشراكة والتوازن وغيرها كي لا توظف في الجدل الحزبي بطريقة تغذي ألارتباك وعدم ألاستقرار .
هذه المسائل لا تتمكن الحكومة من حسمها لأنها أساسية وذات صفة تتجاوز ألأحزاب إلى العراقيين والجماعات التي ينتمون إليها بفعالية سياسية الآن . إن السلطة ألاتحادية في بغداد ، بحكم الدستور وواقع تشكيل مجلسي النواب والوزراء، لا تستطيع مفاوضة ألأكراد نيابة عن العرب لأنها حكومة لكل العراقيين، وهذه الحقيقة من جملة أسباب ألاستعصاء. ولنفس السبب تعجز عن مفاوضة طرفي النزاع الطائفي خارج كردستان وفي الوسط العربي بالذات . وعندما اعتمدت الديمقراطية النيابية ، وأصبحت صناديق ألاقتراع في غاية ألأهمية ، تفاعل واقع ألانقسام الطائفي/ ألاثني مع التعددية الحزبية والزعاماتية بطريقة أدت إلى صعوبة الوصول الى حلول مقنعة لكافة ألأطراف. لأن جميع المسائل أصبحت موضوعا للتنافس بين ألأحزاب والزعماء داخل المجموعات الطائفية /ألأثنية ،ذاتها، وصارت العلاقات بين الطوائف محكومة بذلك التنافس.
ولابد من التراجع إلى قواعد عمل سياسي تساعد حقا على اكتمال التأسيس عبر التوصل، بالتفاوض فيما بين ممثلي الجماعات آنفة الذكر ، إلى تسوية مقنعة لمسائل الخلاف. و يكون النظام السياسي موضوعا لتلك المفاوضات ، وكذلك بنية الدولة على المستوى ألاتحادي والتشكيلات ألإقليمية والمحلية ، وتوزيع الصلاحيات والواجبات والضمانات ألأمنية . ومهمات النهوض ألاقتصادي عبر إرساء مقومات التصنيع وقاعدة اقتصادية عريضة. مع مناقشة مطلب اللامركزية المالية الواسعة ، والتي يعارضها موضوعيا واقع الهيمنة المطلقة للمورد النفطي و التركز الجغرافي للثروة النفطية. ويقال الشيء نفسه حول الموقف من المنظمات المسلحة و مرتكبي جرائم العنف السياسي و ألإرهاب، ومتطلبات حماية الديمقراطية ، وترسيخ قيم التداول السلمي للسلطة، وقانون المسائلة والعدالة ، والموقف من القوى الرافضة للنظام الجديد والجهات الداعمة لها ، و مؤسسات ترويج دعواتها.
التفاوض بين المجموعات السكانية عبر ممثليها هو السبيل لتجاوز سلبيات ألأداء السياسي في السنوات الماضية، وذلك بقطع الطريق أمام المتاجرة بحقوق ودماء الناس.
إن المراجعة المنشودة والتفاوض الذي تفضي إليه يؤدي إلى إضعاف دوافع الخصومة حول إشغال المواقع الرئيسة في حكومة المركز في ألأمد القصير والمنظور، وتقليل أهمية السلطة الحكومية ومواقعها، في الوجدان المتوارث، بالتزامن والتغذية المتبادلة مع تقليل ألاعتماد على الثروة النفطية . ببساطة المطلوب بلورة آلية للتفاوض بين المجموعات السكانية بطريقة مبتكرة لحسم المسائل الكبرى. وبخلاف ذلك تبقى المخاطر محدقة بالعراق وشعبه بعدما لاحظنا أنماط السلوك السياسي التنافسي التي تغذي النزاع حول المسائل العالقة وتذكي نيران الحقد وتهدد الناس ألأبرياء على مدار الساعة بأمنهم وأبنائهم و أعراضهم و حقهم في العيش الكريم. العراق بحاجة ماسة إلى إنهاء جذري للنزاعات وتجاوز منطق التسويات الهشة المشروطة بالأشخاص وألأحزاب. ومن المنطقي أن يرفض العراقيون، وبشجاعة وإصرار، تعليق حقهم في ألأمن والكرامة على مزاج الزعماء وتوازن مصالح المتنافسين على المواقع الحكومية . وللوصول إلى مثل هذا الوضع النهائي من الضروري إعادة تأكيد المبادئ التي تقوم عليها المجتمعات المعاصرة و المتحضرة و تناولها بالشرح التفصيلي والمكاشفة العميقة لبيان مدى ابتعاد الحراك السياسي والثقافي عن تلك المبادئ. ومن بينها إعلان المؤسسات الدينية التزامها بحرية ألاعتقاد الديني للمسلمين وغير المسلمين و إدراكها لمقدمات هذا ألالتزام ومرادفاته ، ومنع التحريض على العداوة، مباشرة أو بصورة غير مباشرة ، ارتباطا بالعقائد الدينية. وأيضا، رفض الخطاب العنصري الذي يتهم الشعوب والجماعات البشرية بالدونية والشر . وتحريم التمييز ضد البشر وألانتقاص من حقوقهم المدنية والسياسية لأي سبب كان . وكذلك من الضروري معرفة النطاق الممكن لعمل النظام السياسي وجهاز الدولة ، والتكيف مع هذه الحقيقة مثل كل الشعوب ألأخرى . و أن يستعد العراقيون لمواجهة متطلبات النهوض ألاقتصادي وما يقتضيه من نزاهة و كفاءة . والأكثر أهمية أن العراق ملك الشعب العراقي وحده تاريخا و حاضرا ومستقبلا وأن يستعد الشعب للدفاع عن حقه هذا مها كلف ألأمر. أن تمثيل المجموعات السكانية في التفاوض المنشود يمكن بحثه في سياق المراجعة التي تهيئ القاعدة المعلوماتية والتحليلية والنماذج البديلة لمعالجة المسائل التي كانت مستعصية، لتسهيل العملية الجديدة . وهذه المهمات تتطلب مرونة عالية من لدن الجهات المتنفذة في الشارع العراقي لاختيار السبيل ألأمثل لتسمية الممثلين بحق لأطراف ألاختلاف والتنازع . ثم يجري التفاوض باستقلال عن مؤسسات السلطة القائمة وتقدم للمتفاوضين تسهيلات كافية ،كما سلف ، ومنها كافة المعلومات والوثائق و الدراسات وكل هذه المتطلبات تهيؤها فترة المراجعة والمؤتمر العام الذي يسبق التفاوض. وفي النهاية يعدل الدستور وتصدر القوانين بما يتفق عليه.