المنبرالحر

لجنة التحقيق البريطاني في حرب العراق تجاهلت الضحايا / د. كاظم المقدادي*

بعد انتظار طويل دام 7 سنوات، نشرت لجنة تحقيق العراق ( وتسمى أيضاً لحنة تحقيق حرب العراق) برئاسة السير جون تشيلكوت، نتائج تحقيقها،منجزة عملا كبيرا،قابلت خلاله أكثر من 150 من الشهود، من الشخصيات السياسية والعسكرية ومن أجهزة الاستخبارات البريطانية. وقامت بتحليل نحو 150 ألف من الوثائق الحكومية. فصدر تقريرها بـ 12 مجلداً، مجموع صفحاته 6 اَلاف، مؤلفة من 2,6 مليون كلمة.
المحصلة و الاستنتاجات
لخصت صحيفة "الغارديان" محصلة التقرير بـ:" دولة دمرت (إشارة الى العراق) وثقة تهدمت (بريطانيا) وسمعة تحطمت ( بلير) ".وخرجت اللجنة باستنتاجات مهمة بشأن مشاركة المملكة المتحدة في غزو العراق،معلنة بان الحرب في عام 2003 لم تكن ضرورية، ومبرراتها ليست مقنعة، فلم يشكل العراق وقتها خطراً على المصالح البريطانية، ولم تثبت مزاعم إمتلاكه أسلحة الدمار الشامل. وأوحى تقريرها بعدم شرعية الحرب، وتجاوزت الدارسة البريطانية ما تنص عليه الأمم المتحدة للحفاظ على الأمن والسلام الدوليين، رغم إدعائها بأنها "تحركت نيابة عن المجتمع الدولي"، بينما لم يتحدث المحامي العام في وقت بلير اللورد غولد سميث عن وجود أساس شرعي للحرب ضد العراق.ولم يفوض مجلس الأمن، في وقتها، أي دولة لشن الحرب على العراق.
مؤاخذات جدية
من المؤاَخذات على اللجنة: إفتقارها الى قضاة أو محامين، ولم تكن تابعة لمجلس اللوردات، وكانت صلاحياتها محدودة، ومقيدة في الإطلاع على الوثائق والتقارير السرية. ولم يكن تقريرها حاسماً- برأي " الأندبندنت"- بما يتعلق بعمليات الخداع والتضليل والكذب،التي مارستها الحكومة البريطانية، ولا بشأن عدم قانونية ولا مشروعية الحرب. ومع ان التقرير إنتقد الأخطاء التي إرتكبها رئيس الوزراء السابق توني بلير،إلا أنه لم يحمله المسؤولية المباشرة لكي لا يساق الى المحاكم بإعتباره مجرم حرب. ويبدو ان المماطلة في تأخير نشر التقرير لعدة سنوات كانت تصب في هذا المجرى، ولم تكن المبررات مقبولة ، ولا علاقة لها بـ "الأمن الوطني البريطاني"، والدليل ان النائب العام السابق اللورد موريس إعتبر قبل عامين عدم نشر نتائج التحقيق فضيحة وطنية..
ولعل المأخذ الأهم: شكل " امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل" أحد أبرز " مبررات الغزو"، بيد ان التقرير لم يأت على ذكر الأسلحة الفتاكة التي استخدمتها القوات البريطانية في الحرب، وتجاهل التحقيق ما سببته من كارثة رهيبة للمدنيين الأبرياء..
إثباتات علمية طلبتها اللجنة وأُهملتها
يحسب للجنة التحقيق دعوتها من لديه إثباتات ومعلومات تفيد التحقيق تقديمها لها. فاستجابت المنظمة البريطانية MedAct.org وقدمت تقريراً خاصاً مكرساً لأضرار النزاع على المدنيين والبيئة.
وقدمت الشبكة البريطانية لأسلحة اليورانيوم في 15/7/ 2010 تقريراً علمياً وافياً مكرساً لاستخدام
المملكة المتحدة لذخائر اليورانيوم المنضب في العراق، شرحت فيه طبيعتها وأصنافها وحجم ما استخدم منها على العراق. وتناولت بالأدلة العلمية القاطعة المخاطر الصحية لليورانيوم المنضب، مستندة الى نتائج دراسات وأبحاث رصينة، أثبتت سميته الكيميائية والإشعاعية على العسكريين والمدنيين، تجسدت بـ " أعراض حرب الخليج"،التي طالت مئات اَلاف العسكريين، وانتشار الأصابات السرطانية والتشوهات الخلقية وعلل مرضية أخرى غير قابلة للعلاج وسط المدنيين الأبرياء.
ولفتت الشبكة إنتباه لجنة التحقيق الى تكرار إستخدام وزارة الدفاع ذخائر اليورانيوم في غزو العراق رغم علمها المسبق بمخاطر إستخدامها، بإعتبارها ذخائر مشعة مصنعة من نفايات نووية خطيرة. وهذا ما أكده البرفسور مالكولم هوبر- أستاذ الكيمياء الطبية بجامعة سندرلاند، والمستشار العلمي لـ "جمعية جنود حرب الخليج الثانية المتقاعدين في المملكة المتحدة"، متجاهلة كافة التحذيرات العلمية،بضمنها لمؤسسات علمية بريطانية معروفة،بشأن سميتها الكيميائية والإشعاعية وأضرارها البيولوجية على صحة وحياة العسكريين والمدنيين.
ويذكر أن العديد من المجلات العلمية وكبريات صحف أوربية وعربية نشرت أبحاثا وتقارير علمية وافية ،سلطت فيها الضوء على ذخائر اليورانيوم المنضب ومخاطرها ، حيث تبين احتواؤها ليس فقط على النظائر المشعة: U-234 وU-235 وU-238، وإنما أيضاً مواد أخرى شديدة الإشعاع، كالنظير U-236 والبلوتونوم والأمريشيوم والنبتونيوم.وأثبت العلماء ان الملليغرام الواحد من النظير U-238 يطلق في اليوم الواحد أكثر من مليون جسيم أشعة (الفا)، إضافة الى أشعة (بيتا) و(غاما).وان الخرطوشة الفارغة (بعد الاستعمال) لطلقة يورانيوم منضب بطول سيجارة،تبقى مشعة وينبعث منها إشعاع في اليوم الواحد يعادل ما مسموح به خلال سنة كاملة.
وعند تحلل اليورانيوم المنضب ونواتج تحلله تنبعث إشعاعات (ألفا) و(بيتا) و(غاما)،فتشكل بدورها تعرضاً إشعاعياً خارجياً وداخلياً للذين يتعرضون لها.ولأشعة (الفا) المنبعثة من اليورانيوم المنضب خاصيات فيزيائية وبيولوجية فريدة،مثل "التأثيرات بالجيرة" Bystander effects وتاَزر Synergism فعل السمية الكيميائية والإشعاعية ويعملان معاً.وأكد عالم البيولوجيا التجريبية البريطاني روجرز كوجهيل ان دخول جزيء واحد من غبار اليورانيوم المنضب المتولد من إنفجار الذخيرة الى الجسم عبر التنفس وإستقراره في غدة لمفاوية واحدة، من شأنه ان يدمر جهاز المناعة بكامله ويتلف الحامض النووي DNA ويسبب نشوء أورام خبيثة وتشوهات خلقية وعلل أخرى خطيرة..
وكل هذا تعرفه وزارة الدفاع البريطانية جيداً،وقامت بإخفاء البيانات والمعلومات ذات العلاقة.
إهمال حقوق الضحايا العراقيين
أقر تقرير تشيلكوت ضمنياً بأن ضحية الحرب في المقام الأول هو العراق، لكنه لم يوليه إهتماماً مطلوباً إسوة بالمسائل الوطنية البريطانية ذات العلاقة. حيال هذا نظمت MedAct org إحتجاجاً جماهيرياً على تقرير تشيلكوت، معتبرة ان التحقيق لم يكن جدياً، حيث لم يهتم بضحية الحرب الأساسية- الشعب العراقي، وقد أهمل تقرير المنظمة المفعم بمعطيات موثقة عن محنة الضحايا المدنيين الناجمة عن الغزو.
الى هذا، كشفت لويز كيتيل ان الحكومة البريطانية كانت قد ظللت بشأن المصابين والمتوفين من المدنيين ضحايا أسلحتها،فلم تسجل أعدادهم بناء على رغبة بلير بتقليص العدد، ضاربة عرض الحائط بتقارير الطواقم الطبية العاملة في العراق والبلقان المنبهة لإرتفاع معدلات السرطان والتشوهات الخلقية، والربطة لها باستخدام أسلحة اليورانيوم- وفقاً لاَنيكا كيللي.
المستغرب ان يعطي التقرير الحق لعوائل الضحايا البريطانيين، من قتلى وجرحى ومعوقين،ممن شاركوا بالحرب، المطالبة بتعويضات، بينما أنكره على نظرائهم من العراقيين،مستهيناً بجسامة الكارثة الصحية التي سببتها الذخائر المشعة،والتي لخصتها العالمة الأمريكية لورين مورين:" أن المستقبل الجينى للعراقيين على وجه التحديد قد تم تدميره".. واكتفى رئيس اللجنة بالقول في مؤتمر صحفي عقده يوم نشر التقرير:" تسبب الغزو وحالة عدم الاستقرار التي أعقبته بمقتل ما لا يقل عن 150 ألف عراقي وربما أكثر بكثير, معظمهم من المدنيين، ونزح أكثر من مليون شخص عن العراق.وتكبد الشعب العراقي معاناة كبيرة ".. ولم يوص لا بتعويضات للشعب العراقي ولا حتى باعتذار يقدم له، وهو ما انتقده كارني روس- مؤسس منظمة «دبلوماسيون مستقلون».. وأدانه الباحث في الفكر الإستراتيجي بجامعة باريس نبيل نايلي بقوله: ضاقت 2,6 مليون كلمة ولو بجملة يتيمة تعيد إلى ضحايا حرب همجية غير قانونية بعض الاعتبار..
لا نية لتنظيف مخلفات حربهم
أكد دوج وير- منسق "التحالف الدولي لحظر أسلحة اليورانيوم" (UKUW)، في مقالة له في مجلة The Ecologist في 11/7/2016،بأن تقرير تشيلكوت كشف عن ان المملكة المتحدة ليس لديها نية لتنظيف العراق من تركتها المشعة القاتلة، وتخلت عن مسؤوليتها وواجبها في إزالة المخلفات السامة التي خلفتها هناك، ولا حتى وجوب رصد تأثيراتها على صحة ومستقبل السكان. وأخفت وزارة الدفاع عن لجنة التحقيق وثيقة عسكرية قديمة، في عام 2003، أعلنت فيها عن نيتها إزالة مخلفات اليورانيوم المنضب والذخائر غير المنفجرة من المناطق العراقية المقصوفة، وأقرت فيها: " لدينا على المدى الطويل مسؤولية قانونية لتنظيف العراق من مخلفات اليورانيوم المنضب"..لكنها غيرت فيما بعد المسؤولية القانونية الى "أخلاقية".. ومن ثم رفضت أي مسؤولية، معتبرة إياها بكل صلافة مهمة حكومة بغداد..
إنتهاك للقانون الدولي
تناول تقرير UKUWN المقدم للجنة بالتفصيل المسؤولية والمشروعية وانتهاكات القانون الإنساني الدولي من قبل مستخدمي أسلحة اليورانيوم. وأكد متخصصون ان استخدام تلك الأسلحة بكميات كبيرة جدا يهدف عمداً مع سبق الاصرار للفتك بالعراقيين وتدمير بيئتهم ، ضاربين عرض الحائط القوانين الدولية التي حظرت في البروتوكول الاضافي الاول الملحق باتفاقيات جنيف ( المادة 35) (يحظر استخدام وسائل او اساليب القتال يقصد بها او قد يتوقع منها ان تلحق بالبيئة الطبيعية اضرارا بالغة واسعة الانتشار وطويلة الامد ).ووفقا للمادة 4 من التعليمات الرسمية، والمادة 7 من قانون المحكمة الجنائية الدولية، فان ما سبق يُعدُ– برأي البرفسورة سعاد العزاوي- جريمة ضد الانسانية نتيجة لتأثيراته الصحية الضارة التي لا تميز بين المدنيين والعسكريين، والتي تستمر أضرارها لفترات طويلة بعد الانتهاء من العمليات العسكرية..
مفارقة ليست مستغربة
مفارقة عراقية أخرى مؤلمة.. في الوقت الذي هزت فيه نتائج التحقيق البريطاني عن حرب العراق الضمائر الحية للبريطانيين وغير البريطانيين في أرجاء العالم، وطالبوا بتحرك عراقي عاجل أمام المحكمة الجنائية الدولية، مبدين عزمهم دعمه إنصافاً للضحايا.. لم تهتز ضمائر المتنفذين في عراق اليوم، حتى اليوم، وكأن الموضوع لا يعنيهم..
مثل هذا الموقف ليس جديداً ولا مستغرباً على من ساهم في تدمير العراق وتحطيم شعبه !! ..
ــــــــــــــــــــــــ
* أكاديمي عراقي مقيم في السويد