المنبرالحر

هل نترحم على صدام ؟ / عبد المنعم الأعسم

قبيل ان يبدأ غزو العراق في التاسع عشر من آذار 2003 لم يكن احد في العالم يعتقد ان عراقيا واحدا سيأسف على رحيل صدام حسين، فقد ارتبط اسمه ببطش وحروب ومجاعات وعزلة وذنوب وحكم فوق جماجم ما لا يبقي للاسف مكانا، ولم يتصور احد بان الطبقة السياسية الجديدة التي ستتصدر الادارة والحكم لن تأخذ العبر من تجربة صعود وسقوط صدام، إذْ كشفت عن انانيات كارثية اكتوت، بنتيجتها، الملايين الآمنة بعواصف الغبار الطائفية وبتردي الخدمات وانعدام الامن والاستقرار ودفعت الالوف من العائلات ثمنا باهضا من التضحيات والتنكيل في مجرى انتشا? الاعمال الارهابية والاستئصال الطائفي والديني، بل وحُشر الراهن العراقي كله في طريق مجهول مثير للقلق والذعر.
يضاف الى ذلك ان الكثير من السياسيين واصحاب القرار كرروا ممارسات صدام حسين وطريقته في ادارة الشؤون العامة والاستئثار بالسلطة والتصرف بالمال العام، بل واهداره، وتكوين البطانات والحبربشية من ابناء القرية والعشيرة والطائفة، فضلا عن التعالي على المواطن، ومخاطبته من وراء حزام الحراسات السميك، والصارم، ثم، إبقاء الغالبية الساحقة من القوانين التي اصدرها صدام حسين، والتي شكلت قيدا على حياة الملايين العراقية، قيد التطبيق.
في هذه المفارقة التاريخية، وتناقضاتها وفجاجاتها، بدا ان الدكتاتور سقط ولم يسقط.. سقط، كنظام سياسي لا رجعة له، لكنه استمر في جانبين،الاول، في ما يتعلق بايتام واتباع بقوا ينفخون في "امل" انهيار التغيير وعودة السلطة اليهم، والثاني، في استمرار فن الحكم الصدامي، ممارسات واخلاقيات وقواعد حكم، وحتى في ضيق الرؤيا للعلاقات مع العالم والدول المجاورة.
كان سقوط صدام مدويا، في الزمان والمكان، وكان سيكون اكثر دويا واثرا لولا هوس التسلط المنفلت للاعبي عهد ما بعد السقوط، ولولا نعرات التشفي والانتقام الطائفية وسلسلة المحاكمات، هابطة المضمون والاداء والمستوى، ولولا "خربطات" برايمر ونزقه، وتخبطات جيش الدولة الغازية، وكل ذلك ترك لـ"الساقطين" هامشا يلعبون فيه لإعادة تركيب هزيمتهم الشنعاء باقل ثمن، ولكي يحاولوا احياء ارث عتيق من النحيب على الاطلال وعلى ضياع الاندلس، ثم ليجعلوا منه ذكرى آسفة، او عنوانا لاعادة عقارب التاريخ الى الوراء.
على انه لم يكن صدام حسين يتصرف، ولا لمرة واحدة، انه سيترجل عن السلطة، بل انه لم يكن يعتقد ان قوة على الارض بمقدورها القائه خارج اللعبة، فقد دس اسمه، صريحا او مؤشرا له، في رقائق وزخارف واحجار دينية وآثارية ترفعه الى مصاف الانبياء، وتختزله الى اية سرمدية من آيات الكون، وثمة عند "جامع ام المعارك" الذي تركه "على العظم" منارات اشبه براجمات الصواريخ، على ارتفاع 43 مترا بعدد ايام القصف الجوي في حرب الكويت فيما عدد المنارات الداخلية الاربع تشير الى شهر ولادته (نيسان) وارتفاعها البالغ 37 مترا يؤرخ العام الذي ولد ف?ه، فيما الفسقيات البالغ عددها 28 فسقية فهي يوم ميلاده، وهكذا اختصر هذا البناء الذي شاء له ان يكون اكبر جامع في العالم الى مفردة تشكيلية تتحدى القدر، وتنتصر عليه، وعندما كان يزور العتبات المقدسة كان يحرص على سماع رواية انه من سلالة النبي، وفي التاريخ كان الاسكندر الكبير قد فرض على الكهنة الاعلان عن كونه ابنا للالهة زيوس.
من زاوية معينة بدا لبعض الفئات الجديدة التي تصدرت المسرح السياسي بعد التغيير ان مشكلتها مع النظام السابق ليست سلوكية في جوهرها، بل هي من النوع الذي يتصل بالصراع على السلطة: من هو احق بها من غيره.. وفي هذه النقطة سقطت الستارة بين نمطين من الحكم: نمط قديم، متوحش، لم نتأسف على سقوطه، ونمط جديد يقتفي اثر سابقه في الكثير من الاخلاقيات.

**********
"وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ... فأقمْ عليهم مأتماً وعويلا"
احمد شوقي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بالتزامن مع جريدة(الاتحاد) الغراء