فضاءات

مرّبون في القلب والذاكرة / كمــال يلدو

لأنهم فتحوا أبواب المستقبل البهي لأجيال عديدة، ومهدوا السبيل لتصبح أحلامهم واقعاً جميلاً، لم تعد مهنتهم مجرد عمل يسد الرمق، بل صارت نبضاً لقلوبهم وإشراقة لسنينهم والهواء الذي يحيون به. إنهم نخبة من المربين في بلادي، الذين أضطروا جراء الخراب والإستبداد والحروب، لقضاء سنيّ تقاعدهم في المنافي الموحشة.
"طريق الشعب" وتقديراً للدور الوطني الذي لعبوه، وهم يجعلون من الآف الشباب، لبنات نافعة في صرح الوطن الجميل، إلتقت بهم وكانت لها معهم هذه الحوارات السريعة.
في محافظة ميسان، ناحية السلام (الطوّيل)، ولد في العام 1943 المرّبي حيدر مطشر لازم، وفيها أكمل دراسته، وبدأ حياته كمعلم في مدرسة بقرية (الضلع) التابعة لناحية السلام، بين مقاطعتي آل ازيرج و العيسى والبزون. وبعد سلسلة إنتقالات بين مدارس المحافظة، إنتقل الى بغداد قبل أن يحال على التقاعد، ويضطر للعمل في مهن مختلفة. وحين تعرض المندائيون لإرهاب بعض الميليشيات والعصابات، إقتلع من وطنه ويعيش اليوم مع عائلته في ديترويت في أمريكا.

كيف تعيشون المنفى؟

على أحلام الوطن وذكرياته. أقرأ كثيراً في التاريخ، واقدم مسلسلاً في المواقع الإلكترونية عن "أثر الصابئة في الحضارة العربية"، وأخر عن العلاقات العامة والشخصيات المشهورة في مدينتي (العمارة) بعنوان " سوالف من هلي".

وما أبرز الذكريات عن الوطن؟

كثيرة جداً، ففي مسيرة التدريس الطويلة، التقيت بالمئات وعشت مئات الحوادث التي تركت العديد من العبر. أبرز ما أتذكر بجذل اليوم، إني طالما جعلت الصغار، في المناطق الريفية النائية، يعيشون العالم المتحضر ويطلعون على منجزاته، وكنت كلما ألتقي بهم كبارا، أسمع عبارات الثناء والشكر، لأنهم يعتقدون بأن أحد أسرار نجاحهم، كان ما تعلموه على يدي من قيم حديثة ومن حب للوطن والعمل حين كانوا صغاراً.

ماذا تتمنى اليوم للعراق؟

أعتقد بأن الطريقة التي يمكن بها قياس رقي اي مجتمع، هو من خلال الحكم على سياسته التربوية، على اساليب التعليم، على المناهج والبنايات ومرافقها المهمة، على الفعاليات التي ينغمر فيها التلاميذ، وعلى الكادر التدريسي، واقعه الأقتصادي وحقوقه. وإذ اتمنى ان يعم في العراق السلام، وأن تنتهي كل دعوات التفرقة، وأن تكون القاعدة السائدة، الدين لله والوطن للجميع، وأن يوضع الأنسان المناسب في المكان المناسب، أتمنى تطوير العملية التربوية وتحقيق طموحات المعلمين بحياة كريمة تليق بما يقدموه للوطن.
المربية ماري شـعيا اسطيفانا، هي الأخرى تعيش سنوات تقاعدها في ديترويت. وكانت السيدة ماري قد ولدت في بغداد، عكد النصارى/ سوق الغزل، وأكملت دراستها في مدارس الشواكة الإبتدائية و النظامية المتوسطة وثانوية الوثبة للبنات، قبل أن تكمل معهد المعلمات عام 1969، وتعمل في مدارس مندلي وعقرة والبصرة. وتتذكر السيدة ماري بأن اول راتب تقاضته كان (ثلاثة دنانير و 750 فلسا) وهو ذات الراتب الذي كان يمنح للجندي المكلف حينها.
قالت في حديث لـ"ريق الشعب": عملي في مدرسة (الثريا) للبنات، (جزيرة السندباد) السياحية في البصرة، كان أجمل تجربة عشتها في حياتي، حيث عقدنا صداقات حميمية مع العوائل، وتطوعت لثلاث سنين في برنامج "محو الأمية" للسيدات، وفي تحفيزهن على التعلم، وكنت الجأ أحياناً الى مشاركتهن في مشاهدة نتاجاتي في الخياطة (هوايتي الشخصية آنذاك) كعامل مشجع لفكرة محو الأمية.

ومتى تركتم البلاد ولماذا؟

إبان الهجمة الإرهابية الشرسة على الوطنيين عام 1978، حيث بعنا كل ما عندنا وهربنا الى عمان ومنها الى اليونان ووصلنا الولايات المتحدة بعد عامين. كانت رغبتي شديدة بالتعلم والعودة لسلك التعليم، لكن ظروف الحياة القاسية حرمتني من ذلك، فعملت في مخزن للبقالة، ثم في مهنة (تصفيف الشعر).

وماذا عن العراق؟

امنيتي للعراق الحبيب، ان يرجع مثلما كان، أمن ويعيش في سلام، ولافرق بين مسلم ومسيحي ويزيدي ومندائي، وأن تتحسن الظروف حقا، فأنا ارغب ان اعود وأكمل حياتي هناك في الوطن وفي الغالية البصرة. هناك فرق كبير بين التعليم في ديترويت وفي العراق، هنا البنايات أفضل والصفوف والمنهج متجدد ووسائل التعليم الحديثة متوفرة ومستوى أعداد المعلمين عال وتنغمر العوائل في مهمة تدريس الأطفال وفي التعاون مع المدرسة.
في منطقة الأعظمية ببغداد، ولد المرّبي أثير يوحنا يلدو العام 1955، وأكمل دراسته في إبتدائية "المخزومية" ومتوسطتي "النعمان" و "القناة" وثانوية "عقبة بن نافع"، قبل أن يكمل قسم الأحصاء في "كلية الإدارة والإقتصاد". تخرج في العام 1978، ثم تحول للعمل كمدرس للرياضيات. وبسبب من ظروف الحرب الطائفية منتصف العقد الماضي، إضطر السيد اثير وعائلته لترك البلاد والإنتقال للحياة في الولايات المتحدة.

ما الذي تتذكره من تلكم السنين في الوطن؟

رغم ظروف القمع والحصار، والراتب الذي لا يكفي لشراء أكثر من طبقتي بيض في الشهر، فقد كنا نعمل بأقصى جهد لإعداد الطلبة، وخاصة تذليل مصاعب دروس الرياضيات لديهم. كانت نخبة من الجنود المجهولين، يصلون الليل بالنهار لتحقيق عملية تربوية ناجحة. وللأسف كان أهدار الفرص على يد الحكام المستبدين والجهلة، يثبط الهمم ويحجّم من النتائج الأيجابية لجهدنا. أذكر مرة إن احد الأساتذة طلب من سمير الشيخلي، حين صار وزيراً للتعليم أن يوفد الأساتذة للخارج للإطلاع على تجارب الشعوب، فأحاله على التقاعد لشدما يحزنني النظر للوراء قليلا، فعندما ازور المدارس التي يتلقى فيها ابنائي تعليمهم هنا، وأقارنها مع مثيلاتها في العراق، اصاب بالألم والدوار. المدارس هنا كبيرة، صفوفها مجهزة بالتدفئة والتبريد، فيها مكتبات ومراسم ومختبرات ومسرح وسينما ومسبح وسوح لكل انواع الرياضة، مصادر كثيرة في البحث، وكلا عنصري التعليم، التلميذ والمدرس، لهم منزلتهم وأحترامهم في المجتمع، وبالتالي فأن هذه الأجواء هي التي توفر افضل المناخات لأبداع الأنسان وتعلقه في الحياة.