ادب وفن

ساعتان مع كامل شياع / هادي الحسيني

كان صديقي سعدي شياع يحدثني كثيراً عن أخيه الذي غادر العراق إلى بلجيكا بعد انهيار الجبهة الوطنية في أواخر العقد السبعيني من القرن الماضي، وعندما غادرت أنا إلى الأردن بعد سنوات، التقيت بسعدي مرة أخرى وسكن معي في نفس الغرفة. كان اعتماده في العيش على الاتصال بكامل شياع في كل شهر، وبات الأمر هو أن يقوم "كامل" بإرسال مبلغ بسيط إلى أخيه، يقتطعه من قوت يومه!.
ذات شهر، انتاب سعدي الحزن الكبير بسبب عدم إرسال كامل له المبلغ، وبيّن لأخيه في رسالة اعتذاره له عن عدم إمكانيته الإرسال!.
مرت سنوات طويلة، وبعد سقوط النظام عام 2003 زرت أهلي في بغداد، وفي أول جمعة ذهبت إلى مقهى حسن عجمي وأول الذين التقيتهم كان الشاعر الصديق رباح نوري الذي قال لي إن أغلب الأصدقاء انتقلوا إلى الجلوس في مقهى الشابندر.
وفي أول دخول لي إلى المقهى كان سعدي شياع قد وقف أمامي ضاحكاً، عانقته، ثم جلس مع شخص قريب الشبه إليه، نادى عليّ، جلست معهم، قال لي: هذا كامل شياع أخي الأكبر!.
أكثر من ساعتين جمعتني بكامل، كان بسيطا طيبا مثقفا رائعا بكل شيء، كنت خائفا عليه وهو يعمل كمستشار في وزارة الثقافة!.
لم يستطع المثقف العراقي الحر الحفاظ على حياته في ظل صراع الأحزاب الطائفية والعرقية التي أحالت العاصمة بغداد إلى مسرح كبير لتنفيذ جرائمها الغادرة بحق مثقفينا الذين يتساقطون الواحد بعد الآخر بجرائم القتل مع سبق الإصرار والترصد، ولأسباب كثيرة جداً، وفي الغالب لم تكن هذه الأسباب ذات نزعات طائفية أو ثمة تعليمات تستلمها تلك الأحزاب من قوى إقليمية خارجية صاحبة نفوذ قوي داخل الحكومة العراقية ومؤسساتها، ومما لا شك فيه فأن المثقف العراقي أصبح الأكثر عرضة للقتل بعد أن كان مهمشاً لعقود طويلة جراء السياسات الخاطئة التي سلكتها الأنظمة العراقية المتعاقبة على حكم العراق والتي تتفاوت بدكتاتورياتها، لكن المؤلم في الأمر، ومنذ خمسة أعوام استطاعت الأحزاب الإسلامية في صراعها المرير على السلطة أن ترتكب جرائم القتل بأسماء أدبية وفنية وعلمية لها ثقلها الحقيقي والتي تمثل الوجه المشرق للعراق وتاريخه وبطريقة غاية في الانتقام وغير مألوفة لدى المجتمعات المتحضرة في العالم.
فأن تقتل شخصاً لأي سبب كان، عليك أن توغل في قتله ما دام قد مات!، هكذا استراتيجيات القتل الحديث داخل الشارع العراقي، فلم تكتفِ أيادي الغدر والجريمة التي اغتالت يوم أمس المثقف العراقي البارز كامل شياع على طريق الخط السريع داخل العاصمة بغداد أثناء عودته من عمله في وزارة الثقافة، فبعد أن أوقفوا سيارته وأمطروه بوابل من الرصاص كان قد فارق الحياة على الفور، ثم عاد احد القتلة ليفرغ رصاصات رشاشته في رأسه بطريقة لا يمكن وصفها إلا بالجبن والخسة والعار والسفالة والعهر والرذيلة لهؤلاء القتلة الذين نفذوا مخططهم المسموم في القصاص من شخصية مرموقة مثل كامل شياع.
لقد تزامن مقتل شياع بعد الإعلان عن حكم الوزير السابق اسعد الهاشمي الهارب خارج العراق بالإعدام على خلفية تورطه بالتحريض على مقتل نجلي النائب مثال الآلوسي قبل عامين أو أكثر!.
لعل فاجعة المثقف العراقي التي منيّ بها يوم أمس باغتيال كامل شياع لم تكن الأولى ولا الأخيرة، على الرغم من الحديث عن التطورات الأمنية السريعة التي عمت العراق بعد تدارك وخمد النعرات الطائفية المشتعلة لسنوات ما بعد سقوط النظام.
كان كامل شياع يخرج من دون حماية تذكر طيلة الفترة الماضية، عكس الوزير ووكيله الذي تسبقه أفواج من الحمايات فيما لو ذهب إلى مكان ما، لكن كامل شياع كان يرفض ذلك ويكتفي بسائقه!.
الجريمة واضحة للعيان ومن هو المستفيد من قتل هذا الإنسان الرائع بكل تصرفاته، وبإمكان الحكومة العراقية القبض على القتلة ومعرفة المحرض على هذه الجريمة، إلا أن الأمر ظل ضد مجهول، مجهول الذي قتل واغتال مئات الشخصيات الثقافية والفكرية في ظل حكومة المحاصصة الطائفية!.
كامل شياع الذي عاد من منفاه برغبة للعمل وتأسيس ثقافة عراقية صافية من كل الشوائب والأحقاد، كان يعرف بأن حتفه قادم لا محال على أيدي المأجورين والقتلة الذين يصدمهم المثقف المتنور صاحب الأفكار الخلاقة للجمال والحياة وسط ركام العمائم الحاملة للأحقاد والضغينة المتسترة بغطاء الدين، لقد نال الحاقدون من جسدك غدراً وجبناً يا أبا الياس لكنهم لم يتمكنوا من النيل من أفكارك ومبادئك وأخلاقك العالية، فوداعاً أيها الإنسان والمثقف النبيل كامل شياع.