- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأحد, 10 أيلول/سبتمبر 2017 18:41
ان عملية الكتابة عن وفي المستقبل هي كتابة عن و في المجهول، إلا أن القاص والروائي لا يمكن أن يعاين العالم على أنه فعل مجهول، فالعالم المتحضر يتحرك في المستقبل على الرغم من وجوده في اللحظة الآنية.
ان البرمجة والتخطيط والتوقعات - حيث الجينات التي سيشكل من خلالها الكائن المستقبلي - لا يمكن أن تخرج من الفراغ، وليكن السؤال المكين هو هل المثقف عامة والروائي والقاص خاصة يقف خارج الفعل المستقبلي؟ خارج الإنسان والوضع الذي سيكون عليه مستقبلا في حقول الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الاجتماع أو الثقافة، ألا يمكن أن تتشكل خرائط الفعل الثقافي وان يكتب السارد عن الكائن البشري الخالي من أورام الحرب أو من مواقف الشطب والإلغاء أو أن يكون بعيدا عن العسكرة وأسلحة الدمار حيث يتوفر العمل والعلم والثقافة، حيث المجتمع البعيد بعض الشيء عن الأمراض والمجاعات والسجون والتغييب؟
وعلى الرغم من أن الكتابة عن المستقبل أمر منتج للكثير من الصعوبات ومنها التخلص من الماضي الشخصي نفسه أولا - والماضي الشخصي لشخصيات السرد - ثانيا - مع محاولة إنتاج وقائع واحداث مخترعة أو مكتشفة أو مستنبطة، أي أن السارد لديه القدرة على صناعة تاريخ للمستقبل أو صناعة المستقبل للحاضر، والقدرة على صناعة الكائن البشري الذي ستكون من واجباته حسن إدارة شؤون العالم.
قد ينتمي هذا النوع من الكتابة -عن السلام، المستقبل إلى المغامرة، غير أن الكثيرين من الكتاب - عراقيين و عربا - غير مستعدين لإنتاج وصناعة المغامرة حيث يكون الخيال هو القائد ، وهو الكائن الوحيد القادر على الامساك بجينات الماضي ، وهو صناعة الرحم الخاص، من أجل صناعة الكائن الجديد - بعد معاملة البويضة المخصبة - ثقافيا - من الأمراض الوراثية والعاهات المتوقعة، ليتخلص الكائن الجديد من النرجسية و الرغبة بتدمير الآخر.
وعلى منوال الكتابات المنتمية إلى ما يسمى -الخيال العلمي - من الممكن أن يكون هناك ما ينتمي إلى الخيال المستقبلي المرتبط بالتشكيلة الاجتماعية للإنسان ، حيث الأوليات المتشكلة من خلال بعض ما ينتمي إلى حيوات الكائن الإنساني.
ان انتاجا كهذا يشكل فعلا قد يدفع به البعض إلى المستحيل، إلا أن الكثير من الأفعال المبثوثة في سرديات الكبار من الكتاب تنتمي إلى فعل متخيل كهذا.
القارئ بحاجة إلى الكاتب الذي يمسك بالفعل المتخيل ولن يتخلى عنه مهما كانت قوة جاذبية -تفاحة نيوتن - بل إن التحليق خارج الواقع هو الفعل القادر على صناعة أدب ينتمي إلى السلام، إلى الواقع الذي لم تدنسه الحروب ،ينتمي إلى المدن الخالية من المعتقلات والإرهاب وتدمير الآخر، الخصم أو الند.
ان العسكرتارية كثيرا ما تعمل وتؤكد على صناعة ما يسمى - أدب الحرب - والذي يشكل حالة احتفاء بالقائد، الفحل، بالأب، الذكر، على الرغم من الوجود المكثف للقتلى والضحايا!
فالكتابة عن الحرب قد تشكل بعض الإدانة لمنتجاتها، ولكن الفعل الأساسي الذي تنتجه الحكومات والدول والسلطات من السعي نحو التضحية بالغالي والنفيس والموت من أجل -الوطن المتمثل بالرئيس.
والإشادة بـ " التضحية بالروح والدم " والشجاعة من أجل الحفاظ على المقدس - الأرض والعرض تحت فضاء المبادئ والعقائد، غير ملتفتة (السلطات ) إلى ما تترك الحروب خلفها من خراب للإنسان والوطن.
القارئ والمتابع للفعل السردي - الإنسان المعاصر - من الممكن أن يتخلى عن بكائياته ومراثيه ولكن عند حضور، وجود البدائل، حيث الحياة المعتمدة في تكويناتها على السلام و العدالة والمحبة، حيث الوطن الذي ينمو بعيدا عن الاختناقات والمجازر ونرجسية القيادات، وتحول الضحية إلى جلاد متطور، معاصر – حداثوي قادر على الاستفادة من تجارب الشطب التي مورست ضده في يوم ما ليتحول إلى جلاد وبامتياز.
أليس من حق القارئ، المواطن أن يستقبل فعلا سرديا يتحدث عن كائنات من غير عقد؟ من غير أورام ، يتحدث عن أوطان و مدن بعيدة عن خطوط القتال والمعسكرات ،بعيدا عن البحث عن منافذ تسليح متعددة!
الكتابة عن كائنات مدنية غير مجندة حيث تبتعد هذه الحياة عن المرتزقة من المقاتلين الذين تتحول الحروب بين أيديهم إلى مجموعة من المهن ، حيث يتحول الإنسان إلى قاتل محترف، والانسان المسالم إلى كائن، ضحية ( القتيل ) حيث يساق الإنسان إلى ساحات القتال، الحرب مجبرا، مضطرا تحت لافتة - التجنيد الإلزامي أو خدمة العلم أو الدفاع عن المقدسات - الأرض العرض!
وإذا ما علمنا أن الإبداع هو المغامرة – بحد ذاتها -، وأن المبدع كائن يتحرك خارج المعتاد عليه، فإن إنتاج فعل مستقبلي بالنسبة لكائن كهذا ينتمي للمستقبل لن يكون أمرا مستحيلا، إلا أن الواقع المفترض والحقائق القلقة، غير الثابتة كثيرا ما يحاولان ربط المبدع بالواقع، الثابت المصنوع وفق مبادئ وقيم الماضي والمنتمية إلى الهدوء والسكينة والقناعات، وشعار "الشين الذي تعرفه خير من الزين الذي تجهله".
المجتمع والدولة والقيم والأخلاق والمتعارف عليه - الحس الجمعي - والتعاليم المنتمية للتقسيرات الدينية في عوالمنا العربية والشرقية والدينية، حيث الجهل والأمية والفقر والبحث عن فرصة عمل أو مصدر رزق، معيشة، حيث مازال الماضي تاريخا يشكل أكثر من مجد تليد، وأكثر من مرجعية مقدسة ،وأكثر من ممنوع، وأكثر أكثر من حالة احتفاء، أما المستقبل فلا يد للإنسان في صناعة أو إقامة مرتكزات تشكيلاتها.
* *
هل كان الشعراء أكثر قدرة من الروائيين - علما أن السرد أكثر اتساعا ومساحة و كائنات؟
هل كان الفلاسفة الأوائل - عندما أقاموا مدينتهم الفاضلة كانوا على حق في طرد الشعراء لأنهم ميالون إلى صناعة اللاواقع والتي يسميها الماضويون بالفوضى والارتباكات وتعكير الجو العام؟
روائيونا ما زالوا يعملون على تجاوز الواقع عبر صناعة الواقع ذاته، يدخلون التاريخ ليعيدوا تشكيله مطمئنين إلى الواقع الذي ينتجونه من أنه سوف يرضي الجميع ،بدلا من أن يثير سخط البغض، وربما يكون الماضي هو الفضاء الذي لا مرجعية له - مرجعية عسكرية تدافع عنه بالسلاح كما تدافع عن الحاضر، حيث تتشكل الدول والحكومات وفق رؤية يقيمها القادة الضروريون، في محاولة منهم ضمن عملية التجهيل بالمستقبل، متجاهلين العلم والمعرفة في وضع الخطوط العامة لإنتاج كائن انساني ينتمي إلى المحبة والسلام وصناعة الفردوس الأرضي.
انهم يحاولون الإبقاء على المستحيل بعيدا عن تحقيق هذا الجانب أو ذاك من الحلم، العالم وتحقيق صناعة اللا حرب ، حيث مدن اللا حكومات الشاطبة.
هل من الممكن أن يمد الروائي يديه في فضاء المستقبل الذي سيكون عليه العالم لحظة وصول، عودة المنقذ، المخلص، المنتظر، فهناك الكثير من التصورات الدينية حول ما سيكون عليه العالم عند ظهور "المهدي المنتظر" وفق المفهوم الديني ولدى شعوب وأقوام أخرى!
هل بمقدور الروائي إنتاج فعل كتابي ينتمي إلى ما يسمح به الآخرون ؟حيث يسود السلام، وترتفع عاليا قيم المدينة الفاضلة.
هل كان أفلاطون وزمرته وقبل المئات من الأعوام أكثر جرأة من روائيينا في يومنا هذا مع وجود الكثير من الفروق التي تنتمي إلى العلم و المعرفة وسعة النظر والرغبة في صناعة التغيير وانتشار الفعل الكتابي والقراءاتي وسهولة الوصول إلى المتلقي؟
هل من الممكن أن يجد الروائي نفسه وسط الحلم، وسط الخيال - حيث المخيال المعرفي - بعيدا عن الأرض التي يقف عليها، أملا في صناعة نص روائي يتحدث عن المستقبل رغم امتداد جذوره عميقا في الماضي، الماضي النقي الخالي من التسويف و الدجل والإلغاء والسطو ودفع الإنسان إلى الموت.
الحياة في كتابات المستقبل، حيث السلام هي كثيرا ما تنتمي إلى الجنة التي يحاول البعض أن يدفع بمحاولات كهذه إلى الخطوط الحمراء، تحت لافتة التجاوز على المقدس، الخالق؟ هل صناعة السرد المستقبلي، السلام ينتمي إلى التغيير البايولوجي، كما ستكون عليه البويضة المخصبة؟
هل هو انتهاك أدبي لما سيكون عليه العالم ،كما يتصور البعض، أن تخليص الكائن البشري من الأمراض المستعصية والوراثية هو تدخل في شؤون الخالق، وأن على الإنسان أن يواجه المستقبل وحيدا، فريدا من غير أسلحة أو مقومات أو قدرات على المقاومة، البعض لا يضع بين يدي الإنسان سوى الاستسلام للمقدس والمكتوب، ووجوب عدم التدخل في شعار - المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.
هل بإمكان الروائي التخلص من قانون - المقدر والمكتوب - قانون الاستسلام، والرضا بما يتشكل بين يدي اللحظة الراهنة بعيدا عن التحديق والانشغال والبحث عن اللحظة القادمة وماذا تحمل و ما ستكون عليه، وكيف ستكون المواجهة؟
هل هي المفارقة أم الاستسلام؟
هل هي الماضي، الحروب! أم هي المستقبل، السلام؟