- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 11 أيلول/سبتمبر 2017 19:01
منذ عقد أو أكثر من زمننا العراقي والاقليمي الراهن، والمسلسلات التركية تتصدر معظم شاشات التلفزة العربية تحت حلم "اسطنبوليود" كرديف منافس لحلم هوليود القديم المتجدد في تغيير أنماط الحياة لدى المستهلكين وفقا لأسلوب الحياة الامريكية بشكل طاغٍ، مما جعل الاستهلاك للبضائع الامريكية انموذجا للترف والسعادة والقوة والمغامرة في العديد من اطراف العالم.
وعلى العكس تماما يبدو حلم "بوليوود"، أي حلم الدراما الهندية، الذي تنهض به الشاشات البيضاء والفضية كحلم يجسد حياة الفقر واليؤس في معظم مدن الهند، من خلال مهراجات أشرار أو مغفلين ومعارك بهلوانية ساخرة واستعراضات غنائية راقصة، حيث ينقل المواطن الهندي البسيط الى سماوات أخرى، يحلق فيها هائما ومخدراً، حتى يستفيق أخيرا على طين الواقع ووحل المجتمع ومع شارة النهاية.
ولا نريد هنا التطرق الى مسلسلاتنا العراقية والمصرية والشامية حتى لا نترك في مشهدنا الفني المعاصر حكما لا يزول، ومنه الاسطوانة المشروخة القائلة بأن مغنية الحي لا تطرب. اذ لا يعقل اننا نركب الموجة أو الصرعة السائدة في التهميش أو الالغاء لنحكم رأينا أو ندلو بدلونا حول ما لا يفيد وما يمتع انها بالأحرى مهمة الناقد أو المؤرخ الدراسي، وليست مهمة رجل المسرح أو الأديب أو الاعلامي كما يفعل المتهافتون في وسائل التواصل الاجتماعي او في القنوات السمعية والبصرية او المقروءة ورقياً.
ونعود الى حلم "اسطنبوليوود" الجديد الذي تلعب المسلسلات التركية فيه على كل ما هو ممتع ومحرم وممنوع ومهمل، وعلى اوتار الضائع والمهمش في حياة البرجوازية التركية، من دون ان تغفل عن التائه أو السقيم في قاع اسطنبول أو انقرة أو المنتجعات السياحية والشاليهات والجبال والتلال والضياع والاحياء والحارات في عموم تركيا، ضمن بانوراما واسعة تعزز قطاع السياحة في هذا البلد. فالكاميرا تتحرك ضمن زوايا اسطنبول وما ادراك ما اسطنبول عزيزي القارئ الكريم الذي ينتهي جسرها المعلق بقسنطينة الروم قريبا من مضيق البسفور، الذي يصب مجراه في مياه البحر الابيض المتوسط، حتى اذا ما شبعت واتخمت من هذه البانوراما السياحية النفيسة ذات الصور المبهرة فانك تواجه جزءا يمتد الى ثلاثين او اربعين حلقة بنفس درامي موصول ومشاهد قصيرة ذات اثارة دراماتيكية معززة بالحركة، ويبدو ان صناعها فريق متكامل من كتاب القصة والسيناريو والحوار، يعملون تحت مفوضية هذا المنتج او ذاك، وهو على العموم منتج حصيف ومراوغ، مدعوم برأسمال الدولة، ومساهم متفرد في الاستثمار الوطني التركي. وحدث ولا حرج عن اختيار الممثلين في مسلسل من المسلسلات التركية اذ هناك نجم تركي كبير قد لا يتكرر في مسلسل آخر، أمثال السلطان في حريم السلطان ومهند وكوسوفي وبراك اوكتاي في مسلسلات اخرى، فضلا عن كريم في مسلسل "البركان" وفاطمة في "الزلزال" وعمران في "لعبة القدر" وعدنان في "زهرة القصر" ضمن احدث صرعات الازياء وعلاقات متجددة تأخذ في الهمود حينا وتتعالى في التجلي والفكاهة او المأساة حينا آخر، كأي "تراجيكو ميديا" يعبر عنها صناع تلك المسلسلات او ترويجها باسم تركيا الحاضر والماضي، وهي في النتيجة بضاعة فنية مهيئة للتصدير وليست للاستهلاك المحلي، حينما تقدم قيم الحرية المعاصرة، حتى بما يفوق الحرية الغربية في امريكا واوربا، مثلما تقدم قيم التاريخ العثماني بجلالة السلاطين ولوذعية الولاة وعظمة العروش ضمن صورة موشورية متعددة الاضواء والالوان والظلال. صورة عرفناها او تواضعنا عليها نحن العرب المسلمين وغير المسلمين للعهد العثماني او ما يسميه آباؤنا واجدادنا بزمن "العصملي" الذي امتد لأربعة قرون من التخلف والفقر والتدهور والانحطاط.
والسؤال الملح الآن: هل تكمن وراء طفرة "اسطنبوليود" في الانتاج الدرامي المتلفز اسباب سياسية معلنة او مضمرة تنبئ بان العثمانيين قادمون، طال الزمن ام قصر، ام ان من وراء ذلك كله، اهداف اقتصادية ومجتمعية وترفيهية؟ الامر بحاجة الى قراءة متأنية لسبر اغوار حلم "اسطنبوليود" نختصرها بالنقاط التالية:
* ثمة نشاط ودور للاستراتيجية التركية يؤكد ان على تركيا ان تملأ الفراغ الذي نشأ في الشرق الاوسط لاعادة ترتيب صورته الجديدة، وهذا ما تعمل عليه تركيا في شمالي العراق وسوريا تحديدا ضمن مجابهة عنيدة مع الامريكان والروس وايران.
* يمكن رصد تحرك تركيا السياسي ابان الربيع العربي ودور انقرة في العلاقات مع ايران وبلدان الخليج واسرائيل، كي نرى هذا "العثمانلي" قد دخل بيوتا مشرعة الابواب لمن يريد اقتحامها، مهلهلة البنيان لمن يشاء هدمها. وهكذا وصل تدخلهم الجديد الى حدود ليبيا والصومال، خصوصا حينما استضافت الحكومة التركية مؤتمرا دوليا ركز على القضية الصومالية ودعا الى فرض الامن والاستثمار في هذا البلد الذي اصبح اسمه مقترناً باعمال القرصنة والفوضى.
* لا تعمل انقرة في المناطق التقليدية حسب، بل تتجه الى الاقتصادات التي بدأت تتعافى، فقد اعلن وزير الاقتصاد التركي السابق ظافر كاغيلان في مؤتمر اعمال عراقي – تركي اقيم في اسطنبول قبل اعوام قليلة خلت، ان حجم التجارة بين بلاده والعراق زاد من مبلغ 940 مليون دولار عام 2003، الى مليار دولار عام 2011، والامر نفسه ينسحب على الصادرات التركية للبلدان العربية الاخرى بين العامين المذكورين، فقد ازدادت الصادرات التركية من 264 الى 526 مليون دولار الى ليبيا ومن 139 الى 208 مليون دولار الى تونس، ومن 496 الى 917 مليون دولار الى مصر.
اما بالنسبة الى دول الخليج العربي التي تعد السوق المفضلة لشركات التصدير التركية فقد اظهر استبيان اجراه اتحاد المصدرين الاتراك في عام 2012 ان نسبة 62 في المائة من المصدرين يسعون إلى دخول هذه السوق. قد تعد هذه الارقام قديمة في عرف الخبراء الاقتصاديين ولكننا اوردنا من باب المثال فقط تعزيزا لهذا المقال.
* جاء في اطروحة المؤرخ الفرنسي المعاصر ما يلي: عندما وصل الجنرال بونابرت الى الشرق الاوسط عام 1798، لم يكن في المنطقة غير دولتين مستقلتين هما تركيا وايران وتحاول الدولتان اليوم استعادة دوريهما الذي لا مناص منه، دور القوتين في المنطقة.
ان حلم اسطنبوليود الدراماتيكي الراهن، قد يشي بمسلسلات تسأل المشاهدين عن أحداثها وتستفتيهم في التنبؤ بما سيجد منها ضمن ليبرالية الدستور الذي سنه كمال اتاتورك عام 1923، او في تحد مستمر للدراما الهوليودية والبوليودية والعربية او من خلال منافسة مشروعة للدراما الايرانية السينمائية التي حصدت الجوائر العالمية وتوجت بالاعتراف وشهادات التقدير.
لقد قال كارل ماركس: "ان الاقتصاد هو التعبير المركز للسياسة". ونقول نحن: ان السياسة هي التعبير الاسمى للقيم الفوقية لأي مجتمع من المجتمعات، ومن هذه القيم العلم والادب والجمال والفن. ترانا اخيراً: اين نضع حلم "اسطنبوليود" من هذه القيم؟