المنبرالحر

أوقفوا حملات الاستجداء، وأمنعوا أن تُنسب للعراقييـن توصيفات مقيتة اخرى / رواء الجصاني

ها نحن خارج السرب من جديد، نغرد، او نندب، ولا فرق، ونثير محبين او غيرهم، وكل من موقف، ولا فرق ايضا..
وهذه المرة نعني ما يسمى بجمع تبرعات في عدد من بلدان العالم، والاوربية خصوصاً، وهي ليست سوى استجداء مبطن ومنظم، على اساس اعانة أعزاء كرام، اغلبهم من الثكالى والارامل والاطفال، وعوائل نازحة أو مشردة في البلد العجيب، ولا ضمير لاحدٍ، واي كان، ما لم، ولا، يتعاطف معهم..
منظمات خيرية هنا وجمعيات مدنية هناك، وكلها تتسابق، وفي الاعلام خاصة، وتتبارى في "حملات" لجمع التبرعات- واكرر، انها حملات استجداء لا غير- لعراقيين منهكين منكوبين، في بلادهم، ام الخير والثراء، والثروات، ولكنها المباحة للمارقين، ولكروش زعامات بها- من كثر ما اعتلفتْ- مسٌ من الحبلِ.
اعرف واعرف واعرف، ان ثمة دوافع انسانية قد تريح الكثيرين ممن يقومون بهذه الحملات لدعم المنكوبين العراقيين، كشكل من اشكال التضامن، والشعور بالمسؤولية تجاه مواطنيهم داخل البلاد، ولكن هناك ايضا كرامة وطن وشعب، لا يجوز ان تُهان بهذه الطريقة البأساء، في ان تُمدّ الايادي لشحذ معونة ما.
كما واسبق من يريد ان يصطاد فأقول: نعم، ليس جميع من "يتزعم" حملات الاستجداء، له مصلحة اخرى غير اراحة الضمير. ولكن لا تنسوا ان من بينهم "رجال"علاقات عامة، و"ارباب" مصالح تجارية، وطالبو جاه ونضال ووطنية مدعاة، على حساب كرامة العراقيين المنكوبين. بل وبعضهم من شارك، بهذا الشكل اوذاك، في اشاعة الدمار والقتل، والى دفع البلاد لما وصلت اليه اليوم، فراحوا يتباكون اليوم، وينتهزون الفرص، ويغنمون.
نعم! سيتبرع الاجانب للعراقيين، حين تعرض عليهم صور الاطفال العراة، والنساء المأزومات والشيوخ المجهدين.. ولكن كل تبرعاتهم النقدية، وكذلك العينية مثل حفاضات الاطفال والبطانيات، وعلب ادوية يكاد مفعولها ان ينتهي، وحتى المدافئ البائسة، وشبيهات اخريات: لا تشبع جوعا ولا تروي عطشا، ولا تحفظ كرامة. فكل ما سيجمع – مدنياً، ومن الناس- لا يساوي غير بعض تكاليف هذه السرقة، او تلك الفعالية الحكومية، او ذلك المشروع البطر، ولن ندخل في تفاصيل ووقائع باتت معروفة، بل ومملة بسبب التكرار والاعادة، والاجترار.
ومع ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، ليس الا ، نقول ان المرء ليحار حقا حين يسمع خبرا حديثاً، موثوقاً، بان العراق تبرع بثمانية وعشرين مليون دولار لمساعدة منكوبين اشقاء، عن طريق الجامعة العربية، ثم لا يكف متطوعون عراقيون من استجداء معونات لاهلهم، من مواطني، ومؤسسات مدنية في بلدان اخرى . وما علينا هنا بمن سيجادل بالتبرعات والهدايا والمعونات الحكومية، فتلكم لها ظروف واحوال وحسابات اخرى، وتقاليد دولية، متبادلة من عقود .
ثم، وقبل ان تُمدّ الايادي والنفوس للغير والغرباء، فلتتركز الحملات بين العراقيين انفسهم اولاً، فثمة من هو قادر، واكثر، في التبرع والاعانة والغوث، لمواطنيه، ان كانت الدولة لا تقدر– حقا- في ان تغطي احتياجات المنكوبين، وتلك من مسؤولياتها الاولى، ودعونا نسمع غير ذلك، ان كان هناك من يقوى فيرد .
لقد قالت العرب، وخير ما قالت بهذا الشأن على الاقل: "اذا ما أبتليتمْ، فأستتروا" وكم علينا ان نتوعى من مغازي هذه الحكمة المعبرة.. فلنستتر، ولا ندع المزيد من الحراجة تلفنا امام انظار العالم، حين يقولون، سراً، بل وحتى علناً بعالي الصوت: انكم تَفتون وتأدلجون وتثقفون بعيدا عن الانسانية والتحضر، وتحرقون بلدكم، وتقتلون بعضكم البعض، ثم تأتونا فتطلبون- تستجدون!- المعونة منا، وانتم من اعرق واثرى شعوب الكون .
ترى أما شَبِعنا من اوصاف وتوصيفات أطلقت، وتطلق علينا، باننا لا نعيش في عالم اليوم، بل في قرون سالفة، اساليب ورؤى وقيماً ومواقف، ومع ذلك نروح لنساهم، متطوعين، فندفع لان يُقال عنا: هاهم العراقيون يستجدون، ويحطون من اقدار وكرامة شعبهم!!! .
ان من يُستجدى لهم اليوم، كرام، وان شاءت لهم الاقدار والاوضاع في ما آلوا اليه، فلا تحرجوهم بهذه الحملات المهينة، وتستجدون لهم . وعوضاً عن ذلك دعونا نعود لاصول المآسى، وجذورالكوارث، التي حلت بالبلاد، والعباد، ونستذكر، ودائماً، المتسببين بها، فكراً وتوجهات، وممارسات، ولنتنور ونتعظ، فذلك ما يجنب تكرار حالات النزوح والهجرات، والنكبات والخراب، والقتول. فبلا تنور وتنوير سيبقى الظلام محيقاً بنا من الجهات الست، وليس الاربع فقط، ولنتذكر بعض حِكم الشعوب وخلاصات العباقرة، والمتنبئين، ومما قالوه بما نحن عليه قائمون:
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم، وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا