المنبرالحر

كارثة الطفل العربي - العمالة – / د. ناهدة محمد علي

إن مشكلة عمالة الأطفال في الدول النامية هي مشكلة قديمة أوجدتها عدة ظواهر إقتصادية وإجتماعية ورسخ أُسسها مراحل الإستعمار السياسي والإقتصادي والذي إستنزف الموارد الطبيعية والبشرية وإستُنزف الشباب العربي مادياً وروحياً ، وكان هذا هو الكارثة الحقيقية للطفل العربي إذ أُضطُر الأخير إلى أن يقف بجسده الصغير أمام الموج الهادر من الفاقة والجوع وسوء النظام التربوي وقصوره ، وكان أن تناول الطفل أي عمل يقع تحت يديه منعاً للموت جوعاً ، ولم تكن المدارس تستوعب كل الأطفال لقلتها وضيق إنتشارها .
أشارت دراسة لمنظمة العمل الدولية صدرت في شباط 2004 إلى أن العالم سيكسب أكثر من خمسة ترليون دولار ستعود بالفائدة على الدول النامية إذا إستطاع التخلص من مشكلة عمالة الأطفال ، وتجدر الإشارة إلى أن الدول النامية تحوي على أعلى نسبة لعمالة الأطفال في العالم ، ومن الغريب أن تكلفة التخلص من هذه الظاهرة تتطلب 760 مليون دولار فقط ، وكانت التقديرات العالمية منذ 2002 قد أكدت على أن عدد الأطفال العاملين في العالم قد وصل إلى 325 مليون طفل 8 مليون منهم يمارسون الدعارة ويشاركون بالصراعات المسلحة ، كما يؤكد التقرير على إختفاء التقارير الرسمية للدول العربية عن ظاهرة عمالة الأطفال وعدم الإعتراف بوجودها ، بينما تشكل عمالة الأطفال في الدول العربية نسبة 15% من نسبة الأطفال العاملين في العالم وتبلغ النسبة في قارة آسيا كلها 17% وأمريكا اللاتينية 16% وأفريقيا 23% .
تحصل منظمة اليونيسيف على معلومات ميدانية من دول عديدة مثل البرازيل ، الباكستان ، السنغال ، نيبال ، الفلبين ، أُوكرانيا ، كينيا ، كرواتيا ، الكونغو . وحسب تقارير المجلس العربي للطفول والتنمية أن هناك في الدول العربية أكثر من 6 مليون صبي عامل و3 مليون صبية عاملة . ترتبط هذه الظاهرة بظاهرة البطالة في الدول العربية وتنتشر في معظم هذه الدول مثل العراق ، سوريا ، السودان ، مصر ،ليبيا ، الجزائر ، اليمن ، فلسطين ، الصومال وغيرها ، وتبلغ نسبة البطالة في هذه الدول حوالي 12،2% وتزيد هذه النسبة سنوياً بنسبة 3% . تنتشر البطالة في الدول العربية لأسباب كثيرة منها سوء إستخدام الموارد الطبيعية وسوء تطوير الموارد البشرية مع قصور الأنظمة التعليمية وإهمال التعليم المهني منذ المراحل الدراسية الأولى . تلعب الصراعات المسلحة دوراً كبيراً في نشر البطالة حيث تقوم بهدم البنى التحتية ومن ثم البنى الفوقية فترزح حتى الدول الغنية منها بطائلة من الديون لتحول ميزانيتها إلى ميزانية حرب أو توفير السلاح والذي قد يصبح ضمن مفهوم حالة الحرب أهم من الغذاء والدواء وتغلق المعامل أبوابها ويهرب المزارعون إلى المناطق الآمنة وتشح فرص العمل ولا يستطيع أرباب العمل تحمل أجور البالغين فتدفع الأقل لصغار العاملين وبساعات غير محدودة وتحت ظروف غير صحية وغير إنسانية . وحسب التقارير الدولية يندفع 67،7% من الأطفال العاملين في العالم إلى سوق العمل بكل أنواعه . وتشكل أيضاً ظاهرة عدم إلتحاق الأطفال بالدراسة وعدم الإنتظام بها سبباً أساسياً مع الفقر والبطالة لعمالة الأطفال . يوجد في العالم 140 مليون طفل متسرب من الدراسة الإبتدائية ، 13% منهم في الدول النامية ، وهناك 130 مليون طفل في العالم لا يتردد بإنتظام على الدراسة الإبتدائية بسبب الإرتباط بالعمل .
إن الأوضاع الإقتصادية بالعالم تشكل سبباً أساسياً في عمالة الأطفال ، ففي دراسة حديثة للبنك الدولي يؤكد على أن 22% من سكان العالم يعيش على أقل من دولار في اليوم ، ويعيش 34% من سكان العالم على أقل من دولارين باليوم ونتيجة لهذه الأوضاع الإقتصادية المزرية تقدم العوائل الفقيرة أولادها لسوق العمل بأرخص الأجور وبساعات غير قانونية حيث تفتقد ظروف العمل إلى الأجواء الصحية التي يحتاجها الطفل بين أفراد عائلته أو في مدرسته فتكون النتيجة أن تسوء أوضاع الطفل الجسدية والروحية بسبب قسوة ظروف العمل في مهن تعتبر خطرة على صحة الطفل مثل النجارة والحدادة وجمع القمامة والصناعات الجلدية والصوفية وتنظيف المنازل والحدائق والعمل الزراعي وتربية المواشي والدواجن . وينخرط الطفل العربي في هذه المهن وتطلب العوائل المزيد لدفع متطلباتها وقد تضطر لتشغيل معظم أبنائها لسوء الأوضاع الإقتصادية ذكوراً وإناثاً ، وتعمل الفتيات الصغيرات في ورش الحياكة والخياطة ضمن ظروف صحية صعبة .
يعاني الطفل العربي في دخوله لسوق العمل من تشوهات خلقية ونفسية ، فيصاب الكثير منهم من تشوهات بالعمود الفقري وأصابع اليد والقدمين وتتأثر حاستي السمع والبصر بسبب الأضواء والأصوات القوية في مهن مثل النجارة والحدادة وصناعة الزجاج ، ويصاب الطفل بجروح مختلفة وأمراض خطيرة مثل ( الكزاز ) ، لكن الأمراض النفسية ليست بأقل خطورة حيث تتنامى في الطفل العدوانية والشراسة وحب الإنتقام بسبب الإحساس بالغبن والمعاملة القاسية من قبل صاحب العمل يضاف إلى هذا الإنحرافات الجسدية والجنسية ، حيث يضطر الطفل أحياناً للمبيت في ورشة العمل مع غيره من البالغين بالإضافة إلى عدم النمو العقلي بالشكل الطبيعي للطفل . إن التسمم الجسدي للطفل العامل من خلال إستنشاقه للغازات السامة أثناء العمل وتخريب جهازه التنفسي والمناعي لا يقل خطورة على التسمم الروحي الذي يصاب به الطفل ، فقد يبتعد الطفل رويداً رويداً عن عائلته ومجتمعه ويعيش عالماً مشوهاً فلا هو طفل ولا هو بالغ ، فيتقوقع في عالم غريب لا يحق له أن يحلم بالألعاب أو الفرح الطفولي ، ومن خلال إستماعي إلى حديث بعض الأطفال العاملين وجدت أن اللغة المستخدمة هي لغة سوقية مع إستخدام بعض الألفاظ الغريبة التي تتداول في ورش العمل . وقد يفقد هذا الطفل محبته لوالديه وإحساسه بإستخامهم له وحرمانه من الدراسة دون أقرانه كما يفقد إحساسه بالأمل المستقبلي ، إذ لا يعلم هذا الطفل إلى أين هو سائر .
إن تركيب النظم التعليمية بحيث يُعطى الإهتمام الأوفر للتعليم المهني ويبدأ المجتمع بتدريبهم في المراحل الأخيرة من المرحلة الإبتدائية ثم يستمر إلى المرحلة المتوسطة والثانوية وهكذا ينتج المجتمع صناعاً مهرة قادرين على رفع مستوى نوعية وكمية الإنتاج الإقتصادي ، لأن العمل غير الماهر لهولاء الأطفال لن يطور مستوى الإقتصاد أو الإنتاج المحلي . ويجب أن توضع حلول علمية لمشكلة البطالة ويعتبر توفير السلام المجتمعي وتطوير الإقتصاد هو ضرورة حتمية لحل مشكلة البطالة مع مشكلة عمالة الأطفال ، إذ لا يمكن لأي إقتصاد في العالم أن يتطور بوجود الصراعات الداخلية والخارجية ، فعملية إستثمار الموارد الطبيعية والموارد البشرية تبدأ بتوفير الأمان السياسي لكي يكون هذا الأمان حاضنة جيدة لنمو الإقتصاد والمحافظة على القيم الإجتماعية النبيلة ، وهناك أمثلة كثيرة على تزامن الإنهيار الإقتصادي مع الإنهيار القيمي كما حدث للكثير من المجتمعات التي عاشت حروباً طويلة المدى وإنهيارات مجتمعية وإقتصادية .
وقد ينحرف الطفل المتسرب من المدرسة إلى المساهمة في الصراعات العسكرية ويصبح أداة من أدوات القتل ، وتصبح محاولة توعيتهم سلبياً بالوعي الديني من قبل الميليشيات المتطرفة هي السبيل الوحيد للحياة لديهم ، ومن الطبيعي أن يكره هولاء الأطفال الحياة فيصبح الموت والقتل مهنتهم بدون أن يجد تفسيراً لهذا بل يصبح هولاء الأطفال كالبباغاوات يكرر المفاهيم المتطرفة بدون إستخدام المنطق وبدون القدرة على التحليل، وهو لا يمتلك الخبرة ولا التجربة لخوض هذه المعارك ولا يتجرأ على التحليل بل يدخل إلى تدريبات قاسية وحياة خشنة غير مألوفة ، وقد يشعر الطفل معها بتعاسة وخوف شديدن ولكنه لن يستطيع الخلاص . وقد شاهدت موخراً فيديو بكيفية تدريب تنظيم طالبان وتنظيم داعش لأطفال في الثامنة والعاشرة من عمرهم ، وكانت ملامحهم تُعبر عن القهر الجسدي والنفسي فهم لا حول لهم ولا قوة ولا خلاص إلا بالإنصياع للأوامر . ويُقَدم البعض منهم كأكباش فداء في العمليات الإنتحارية ، ويُستبدل حب الوطن هنا بحب التنظيم وحب العائلة بحب القادة ، وحب الخير بحب القتل ، ويُستبدل أيضاً البناء بالهدم .
ويدور الطفل العربي ضمن هذه المطحنة حيث يقدم الفقر لنا أسوأ نموذج لبيع العوائل لأطفالهم إلى أصحاب الورش أو إلى دور الدعارة أو إلى التنظيمات الإرهابية . وقد ينخرط إلطفل العربي إلى العصابات الإجرامية التي تمتهن السرقة أو قد يمتهن التسول بعاهات حقيقية أو مصطنعة ، وقد يكون هذا نتيجة حتمية لمعيشة الكثير من أبناء المجتمع العربي دون خط الفقر ، وحين يصبح المجتمع العربي أشبه بلعبة ( اليو يو ) لا يمسك بزمامها إلا العشوائيون ذوي التفكير التسلطي والدكتاتوري والنفعي ، حيث لا يسقط قائد لدينا إلا ويُكتشف سلبه لإقتصاد البلد وتحطيمه للبنى التحتية بأفكار أقل ما يقال عنها أفكار ( نيرونية ) حيث يظن أنه في برجه العالى لن يصل إليه الحريق .