فضاءات

حلم يقظة تحقق في الشيخوخة فأبكاني/ د. علي الخالدي.

كان يراودني بصورة مستمرة حلم يقظة لزيارة بريطانيا ، في أوقات لم تسمح التفكير بتحقيقه ، حيث العمل والتنقل من بلد ﻵخر ، أرهق العائلة ، وأتعب جسدي ، باﻹضافة الى مسؤولية المناوبات وما تخلقه من شد نفسي بعد أن تقلص عددنا من ثمانية إلى ثلاثة أطباء، بسبب هجرة الكوادر الصحية ﻷوروبا الغربية ، مما أدى إلى تقليص اﻷقسام ، وإغلاق مستشفيات ، عولجت الهجرة برفع الرواتب الى الضعفين مع إمتيازات أخرى للأقسام النادرة اﻹختصاص ، وهكذا حافظنا نحن الثلاثة على بقاء قسم العناية الفائقة للأطفال الخدج في المستشفى التعليمي مدة خمس سنوات . و بإلتحاق أربع أطباء بالقسم تدربوا على ايدينا ، أصبح باﻹمكان تقاعد اﻷكبر سنناً ، وكنت أنا اﻷول ( اﻷجنبي الوحيد في المستشفى) بعد نيلي إكرامية محرزة من بلدية الحي . بجانب التقاعد إلتحقت بالمعهد الوطني لحديثي الولادة اﻷصحاء ، بعمل ست ساعات وبدون مناوبات .
في فترة التقاعد ، التي قفزت بي لمرحلة الكهولة تلك ، بدأت أبرمج لزيارة الدول الرأسمالية فبعد برلين وروما وإسبانيا وبوسطن جاءت لندن ، حيث كانت تستهويني رغبة مشاهدة متاحفها للإطلاع على حضارة مكونات شعبنا العراقي العرقية من كلدان وآشوريين وسريان وصابئة مندائيين ، التي لم تتح لي فرصة اﻹطلاع عليها في وطني ، ومن حسن حظ اﻷجيال والعالم ، أنها وقعت بين أيدي أمينة صانتها وحفظتها ، وإعتبرتها ملك البشرية جمعاء ، بينما بقي حكامنا على مر السنين يلوكون باﻹفتخار بها دون تحريك ساكن ، حتى أن بعضهم قد داس على قدسيتها وقام ببيع ما سهل حمله في السوق السوداء، ولم يحرصوا على صيانة ما زال متبقيا منها تحت اﻷرض وإستخراجه ، موفرين فرصة للصوص للعبث بها دون رادع
نعم ، مؤخرا زرت مدينة الضباب لندن ، كما يصفها العرب ، فوجدتها مدينة سياحية تجارية صاخبة ، ﻻ تصلح للسكن الدائم ، ضاجة بالحركة والضجيج على مدار 24 ساعة ، ففي الصباح والمساء ، تشاهد جموع بشرية تخرج وتدخل محطات المترو مسرعة . تخف الحركة نوعما بعد العاشرة صباحا ، و يغلب عليها حاملي الخرائط ليتعرفوا الى المناطق السياحية التي يودوا مشاهدتها ، نادرا ما تشاهد ذوي السحنة العربية بين صفوفهم ، بينما كنا نشاهدهم مع المحجبات والمنقبات وأطفالهم في المتاجر .مردداً مع نفسي أنه بعد عشرين سنه ستعلن لندن إسلامها.
لندن لا تشاهد بيوم أو يومين . يومنا اﻷول خصص للتجول بالباص ، ومشاهدة المتحف الوطني ، و ياليتني لم أزره ، حيث ابكاني ما شاهدته من تراث حضاري لمكونات شعبنا العرقية في الغربة ، والذين لا زال يتقلص عددهم ، وبصورة خاصة الكلدان والسريان واﻷشوريين والصابئة المندائيين ، وأﻷيزيديين ، وقد سبقهم اليهود ، نتيجة التهجير القسري، وما يتعرضوا له من تضييق على حياتهم ومصادر أزاقهم ، باﻹضافة الى القتل واﻷختطاف ومصادرة ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة على مر العصور ، و ﻻزالت تمارس ليومنا هذا . ولسان حالهم وحالي يقول ، قد نضيق بالوطن ، ولكن أشد ما نفتقده إذا أبتعدنا عنه.
عندما شاهدت القيثارة في المتحف ، إنتابتني رعشة هزت بدني ووقف شعر جسمي ، وأصابتني دوخة أعدتها الى الحزن الشديد الذي إنتابني لكونها شاطرتني غربتي ، وما يسن في وطني من القوانين وتٌصدر تعليمات تُضيق من ممارسة فنون الترويح عن النفس، كالموسيقى والسينما والمسرح وفنون أخرى ، كانت تمارس من قبل أجداد مكونات شعبنا العرقية قبل آلاف السنين.
مكثنا في بريطانيا ثلاث أسابيع نادرا ما شاهدنا الشمس فيها ، ومع هذا لم يمنعنا ذلك من زيارة مدن أثرية عديدة منها باث ، المشهورة بمسبحها الروماني ، وكتدرائيتها العريقة ، وخصصنا يوما لمدينة لاك لوك اﻷثرية ، و منطقة ستونهجن التي هي أحدى عجائب الدنيا السبع ، يتقاطر عليها السائحون رغم تساقط المطر وبرودة الجو ، لمشاهدة اﻷعمدة الضخمة التي رصفت على شكل دائرة تحاكي الشمس، ليستدل القدماء من خلال ظل اﻷحجار التي تعانق الفضاء بشكل دائري على الوقت.
ولكون برنامجنا كان مكثفا ، لذا تطلب تنفيذه سيارة ، لم أجرء على قيادتها في بريطانيا ، وخاصة بعد أن سمعت أن القيادة هناك تحتاج الى وقت للتدريب ، بسبب موقع مقود السيارة في جهة اليمنى . كانت ترعبني حركة السيارات وخاصة عند اﻹستدارة ، ومع هذا لم أشاهد أو أسمع بحادث مروري طيلة أقامتنا ومع ذلك زرنا أغلب معالم لندن في المركز ويعض الضواحي.
شيئان جلبا إنتباهي في المتحف ، اﻷول الدخول إليه بالمجان ، والثاني لم ألحظ ذكر للعراق سوى ميسوبوتاميا وآشوريات ، مع تناسي ذكر الشعب الكلداني الذي تعود اليه آثار بابل وأور.